مرّت أكثر من ثلاث سنوات على انتخاب إيمانويل ماكرون رئيساً لفرنسا وتبدو "بلاد الغال" كلها ضده! لكن من بلدة واقعة في سفوح جبال البرانس، ظهر فجأةً جان كاستيكس، رئيس بلدية منطقة "برادس" الصغيرة (عدد سكانها 6124 نسمة)، وأصبح رئيس الوزراء الفرنسي الجديد، وكاستيكس سياسي لم يسمع به أحد من قبل، وهو يحمل اسماً يوحي بأنه خرج مباشرةً من كتب "أستريكس" الهزلية!

قد تكون رئاسة الحكومة الفرنسية أكثر وظيفة جاحدة في السياسة الأوروبية، حبث يتلقى رئيس البلاد الإشادة على جميع الإنجازات، في حين يُلام رئيس الحكومة على جميع الإخفاقات، ومن المنطقي أن نتساءل إذاً عن السبب الذي دفع كاستيكس إلى قبول هذا المنصب.

Ad

كاستيكس هو خرّيج "المدرسة الوطنية للإدارة"، على غرار سلفه إدوار فيليب وماكرون، رغم سذاجته الظاهرية، ويُعتبر وصوله إلى منصب رئيس البلدية تتويجاً لمسيرته التي أمضاها في باريس، حيث قام بأعمال بارزة بدل أن يكتفي بجمع نفايات البلدية، كان ينتمي إلى حزب "الجمهوريين" اليميني حتى هذه السنة، لكنه تكنوقراط أكثر مما هو إيديولوجي.

ففي حين ينشغل كاستيكس بالمشاكل اليومية الشائكة، يستطيع ماكرون الآن أن يركّز على إعادة انتخابه، علماً أن فوزه لم يعد متوقعاً كما كان سابقاً، وبعد انتصاره بنتيجة ساحقة على مارين لوبان في عام 2017 وحصد أغلبية مطلقة في الجمعية الوطنية خلال الانتخابات البرلمانية اللاحقة، تحوّل عهد ماكرون الرئاسي إلى سلسلة من الأخطاء والإخفاقات والهزائم الانتخابية، فبقيت إصلاحاته الاقتصادية محدودة، وتبخرت أغلبيته البرلمانية بعدما تخلى عنه نوابه، وهو يتحمل حتى الآن تداعيات قراره الأخرق بزيادة ضريبة الوقود، مما أدى إلى انطلاق ثورة الفلاحين وحركة "السترات الصفراء"، كذلك، لم يحصد طموحه المرتبط بحصول نهضة أوروبية كبرى زخماً واسعاً خلال انتخابات البرلمان الأوروبي في السنة الماضية، حيث احتل مرشّحوه المرتبة الثانية واقتصرت نسبة الأصوات الداعمة لهم على 22%.

في الشهر الماضي، خلال الجولة الثانية من الانتخابات البلدية الفرنسية، تعرّض للإهانة مجدداً حين هُزِمت مرشّحته لرئاسة بلدية باريس، حتى أنها فشلت في حصد مقعد في مجلس المدينة، وفي مرسيليا، ثاني أكبر مدينة في فرنسا، حصد حزبه "الجمهورية إلى الأمام" 1.2 في المئة من الأصوات فقط.

تسود أجواء مشابهة للثورة الفرنسية في عام 1789، فلم يبقَ إلا 650 يوماً حتى موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، وبدأ ماكرون يخاف على مصيره، حيث وجّه الوزير السابق بيرنار تابي في الفترة الأخيرة تحذيراً صادماً إلى الرئيس المحاصر، بما يشبه تحذير المستشار للملك لويس السادس عشر: "ما يحصل ليس تمرداً يا مولاي، بل ثورة"! قال تابي لماكرون: "مشكلتك، سيدي الرئيس، لا تتعلق بغياب شعبيتك، بل إن الناس يريدون قتلك".

لكن لا يزال الوقت مبكراً لإصدار الحكم النهائي على ماكرون، فهو محاط بجبهات متعددة تحاربه على جميع المستويات، ومع ذلك، تشير التقديرات الانتخابية حتى الآن إلى تفوق ماكرون بقوة، ويبدو أن نظام التصويت على مرحلتَين يفيده على أكمل وجه. يكشف استطلاع رأي جديد أن حظوظه تساوي لوبان في الجولة الأولى من التصويت، بعيداً عن أي مرشحين آخرين، لكن سيحقق ماكرون الفوز على الأرجح في الجولة الثانية بنتيجة 55% مقابل 45% لمارين لوبان. لكن يخشى ماكرون أن تتحدى لوبان الأفكار التقليدية وتهزمه في ظل الانهيار الاقتصادي، فهو يعرف أنه يحتاج إلى تبني مقاربة إنسانية والتخلي عن الغطرسة، ويدرك حاجته أيضاً إلى أفكار مبتكرة لإعادة إحياء حملته الانتخابية.

تشمل خيارات أخرى إصلاحاً دستورياً لإلغاء منصب رئيس الوزراء واقتراح رئاسة تنفيذية، يُقال إن هذه الفكرة هي من ابتكار ساركوزي، لكن هل تحتاج فرنسا إلى حصر السلطة بيد فرد واحد؟

في مطلق الأحوال، لن يفوز ماكرون على الأرجح بأغلبية المقاعد في الجمعية الوطنية خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة مهما فعل، ويستطيع كاستيكس أن يعود دوماً إلى منطقته حيث ينشغل باحتساب استحقاقات معاشه التقاعدي الضخم وبجمع نفايات المنطقة، أما ماكرون فيبدو أنه لن يذهب إلى أي مكان، وقد يكون مكروهاً وضعيفاً لكنه صامد في منصبه.

* جوناثان ميلر

* «سبيكتاتور»