لطالما كانت مكتبة والدي مكانا مقدسا في منزلنا، لم يُسمح لأحد بالدخول إلا للاتصال به لتناول وجبات الطعام، وعندما كبرت أصبح أكثر تساهلا في السماح لي بالتجول حول الرفوف المخدشة الجميلة واستنشاق رائحة الكتب القديمة، ولطالما استمتعت بصحبته ومحادثاته القيمة التي نتبادلها حول مواضيعه المفضلة المختلفة مثل السياسة والأدب والتاريخ، وبصفتي شخصا بالغا الآن، أصبح والدي أكثر لينا بإعارتي كتبه بسعادة لقراءتها واستخدامها كمراجع بحثية، طالما أنني لا أخدشها أو أكتب تعليقات على الهوامش (وهو أمر أراه صعبا جدا بالنسبة لي كباحثة).

وفي أثناء تجولي في المكتبة أثناء الحجر المنزلي، لفت نظري عدد قليل من كتب اللغويات التي لم أظن أن والدي قد يمتلكها أو أن يهتم بها، وعندما أبديت رغبتي في قراءة أحد الكتب، بدا سعيداً بإعارتي الكتاب الذي يتناول التنوع الثقافي في سلطنة عُمان.

Ad

يذكر الباحث العماني خالد البلوشي في كتابه (التعددية الثقافية في عُمان) والذي يسلط الضوء على تاريخ وتطور اللغة البلوشية: تستخدم اللغة البلوشية في باكستان، وإيران، وأفغانستان، وتركماستان، وعُمان، وجنوب الجزيرة العربية والساحل الشرقي من إفريقيا، ويذكر الباحثون أن عدد متحدثي البلوشية يتراوح ما بين ٣ ملايين و٧ ملايين.

يقول فراي في موسوعته (١٩٩٥) إن اللغة البلوشية تنقسم إلى لهجتين: الأولى: اللهجات الغربية (البلوشية المكرانية) المتحدثة في إيران، والثانية: اللهجات الشرقية (البلوشية الشمالية) المتحدثة في باكستان، وتنقسم هذه اللهجات إلى ست لهجات فرعية تنسب إلى مناطق مستخدميها: اللهجة الرّاخشانيّة، والسّروانيّة، والكيتشيّة، واللوتينيّة ولهجات المرتفعات الشرقية ولهجات الساحل.

كانت اللغة البلوشية لغة شفوية إلى أن تم توثيقها إلى لغة مكتوبة في القرن العشرين، وقد كان الباحثون في اللغة والمستعمرون الإنكليز أول من قاموا بكتابتها بطريقة منهجية في القرن التاسع عشر، وتحتوي المكتبة البريطانية على ثلاث مخطوطات مكتوبة باللغة البلوشية التي تعود إلى القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى الترجمات المتفرقة لأجزاء من الكتاب المقدس.

كانت اللغة البلوشية تُكتب أحيانا بالحروف اللاتينية وأحيانا بالحروف العربية الفارسية حتى اقتصرت على العربية الفارسية منذ أوائل القرن العشرين، وتجدر الإشارة إلى أن البلوشية تُصنف بناء على خصائصها الصوتية والإتمولوجية على أنها لغة هندو- أوروبية وتنتمي إلى اللغات الإيرانية التي تشمل الفارسية والكردية والبشتويّة، وتُصنف البلوشية أيضا على أنها لهجة إيرانية، ولا يوجد فيها تمييز نوعي (التذكير أو التأنيث).

ويذكر المؤرخ الإنكليزي رولنسن أن شعب بلوشستان يُعتبر من الشعوب السامية، ويذكر أن كلمة (البلوش) اشتقت من اسم الملك البابلي بيلوص، وهو اسم إله كلداني، كما ذكر أنه تعود أصول أهل بلوشستان إلى العربية، ويعود تبرير هذا المعتقد الشعبي إلى تشابه أسماء بعض القبائل البلوشية والعربية كـ المري (المرعي)، والمهري والريسي (الرئيسي) والكهدائي (القحطاني).

‏‎ولطالما كانت عُمان منطقة غنية لغويا لدراسة الوضع اللغوي لتنوعها، يقول الباحث خالد البلوشي إنه من المؤسف غض النظر عن هذا الثراء اللغوي، والذي لم يُحتف به وتم تهميشه إلى أن بات مهددا بالانقراض، كما يذكر الباحث عبدالله الحراصي، أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو) أشارت إلى أن أغلب اللغات العمانية تُعد عُرضة للانقراض ما عدا العربية، والبلوشية، والسواحلية.

وكما أشرت في مقال سابق إلى أن اللغة تموت وتنقرض بمستخدميها، ولهذه اللغات تحديدا من يتحدثها ويهيئ لها أسباب البقاء في شرق إفريقيا وبلوشستان حتى إن انقرضت في سلطنة عُمان.