أكدت جائحة «كورونا» حقيقة وحدة مصير البشرية ووحدة الكون وعمله ضمن منظومة متكاملة من الكائنات الحيّة تعمل في توازن بيئي منتظم دقيق ومذهل، وأنه إذا حدث عبث بهذا التوازن، فإن نتائج وخيمة ستقع على العابث، وهو الإنسان، حتى يتم التصحيح.

لقد بات إدراك هذه الحقيقة ضرورة، والتوجه نحو مرحلة وعي جمعي تكرّس للاحتفاء بالآخر وتقديره واحترامه لا قبوله فحسب، والاستفادة من التنوع والاختلاف في التبادل الثقافي وإثراء الحضارة الإنسانية، إنّما هما رؤية مستحقة تتطلّب أن يتبناها المجتمع الإنساني العالمي بأسره، من خلال إجراءات ملموسة تحقق رؤية شمولية للنظام الكوني، وهي الرؤية التي ستكثّف «لوياك» جهودها التوعوية للسّير باتجاهها.

Ad

لقد أثبتت «كورونا» كيف يساهم الجشع والأنانية في خلق كوارث يدفع ثمنها الجميع، لا الحيوان أو الطير أو الشجر فحسب، بل سيكون البشر أول مَن يدفعون ثمن الدمار الذي يسبّبونه لبيئتهم نتيجة ما يسمى بـ «الفخ الاجتماعي» أو «مأساة العموم» الناجمة عن انتشار فعل جماعي قد يكون ذا فائدة لمجموعة صغيرة من البشر في وقت ما، إلّا أنه ينقلب إلى فعل مدمّر على المدى البعيد، عندما يصبح سلوكاً شائعاً مُبالغاً فيه يقوم به كل الناس كاستنزاف مورد مشترك، مثل الصيد الجائر أو غيره من سلوك جماعي مدمر للبيئة.

كذلك يتجلّى الجشع بأبشع صوره في المشاريع الاقتصادية التي قد تبدو في ظاهرها ذات فائدة للمجموع، لكنّها في الحقيقة ذات فائدة مالية لأطراف محددة، وكُلفتها الحقيقية تدفعها أطراف أخرى لا علاقة لها بالموضوع، والتلوّث البيئي الذي نعانيه خير دليل على ذلك، ولا أدلّ على جشع البشر وغياب وعيهم الجمعي أكثر من الحروب المدمرة التي تعيشها البشرية.

إن مسؤوليتنا جميعاً كأفراد ومؤسسات لا تقف عند حد حماية الإنسان فقط، بل علينا أن ندرك أن البيئة التي نعيش فيها هي مصدر وجودنا، لذلك فإنّ تكثيف النشاط التطوعي والإنساني باتجاه المحافظة على البيئة وصحة الإنسان ومحيطه هو مسار مستحق، بل واجب إنساني ووطني وأخلاقي.

لقد آن الأوان لمرحلة وعي جمعي جديدة تضع المحافظة على البيئة في قمة أولوياتها وإلّا هلكنا جميعاً، وذلك يتطلب تضافر الجهود لتفعيل القوانين ضد المتجاوزين بالدرجة الأولى وتبنّي حملات التوعية الشاملة، ولذا فقد وضعنا في «لوياك» البيئة ضمن قمة أولوياتنا التوعوية المقبلة، وستكون مساهمتنا ضمن جهود مشتركة مع القطاع المدني والخاص والحكومي والمؤسسات البيئية العالمية.

على العالم أن يتجه إلى توحيد الجهود والتكامل، وعلينا أن نؤمن بمبدأ الوفرة، وأن هناك الكثير للجميع.

ليست هناك تنمية أحادية المصدر، وإذا أردنا حقاً تنمية شاملة مستدامة، فعلينا أن نعمل بشكل جماعي، والمجتمع المدني لطالما كان له دور مهم كأحد محرّكي التغيير في المجتمعات.

آن الأوان أن تبادر الحكومات العربية إلى تقدير دور المجتمع المدني وإشراكه كشريك رئيسي في التنمية، فالمصلحة الجماعية تقتضي ذلك، وإذا تم التنسيق بين كل القطاعات؛ المدني والخاص والحكومي، فسنحقق قفزة نوعية وكميّة في التنمية المستدامة.

وعلى الحكومات والمؤسسات الخاصة والمدنية أن تدرك أن الاحتكار ما هو إلا معول هدم للاقتصاد والحضارة، وقد بات تكثيف التعاون والعمل بنظام التكامل وإتاحة الفرص للجميع للمشاركة في بناء الوطن طريقاً حتمياً للتنمية المستدامة.

إن نموذج التعاون والعمل المشترك تطبّقه «لوياك» بنجاح مع شركائها من المؤسسات الحكومية والخاصة والمدنية المحلية والدولية في معظم مشاريعها منذ بداية تأسيسها، لكنّها عززت أخيراً مفهوم التكامل والتعاون الإقليمي مع فروعها في كل من لبنان والأردن، من خلال ورش الـ «أونلاين» المشتركة المتاحة للجميع، كما أن تعاونها خلال «الحَجْر» مع «الدفاع المدني» وبنك الدم ومؤسسة إنجاز التعليمية في حملات التوعية والحملات التطوعية كان له مردود وتأثير كبير وسريع في المجتمع.

ستكون المرحلة المقبلة للتدريب المهني الواقعي أو الافتراضي والتعليم الإلكتروني النوعي، أما التعليم التقليدي فقد انتهى دوره، وعلينا مسؤولية مراجعة منظومة التعليم بأكملها، ونفضها، والتوجه نحو التدريب النوعي وتقدير احتياجات سوق العمل، الذي نتوقع أن يتّجه إلى تقدير المهارات لا الشهادات.

سنشهد سقوط التعليم التقليدي عالمياً وإحلال التعليم النوعي والتدريب المهني محله، وهناك مواد كثيرة يجب إلغاؤها من المناهج، وهي لن تؤثر على ذكاء أو مهارات أو مستقبل قوة العمل، في حين أن هناك مواد أخرى مهمة وأساسية لتعزيز القيم والأخلاق والنمو العاطفي للفرد تساهم بشكل إيجابي في تطوّر المجتمعات الإنسانية يجب أن تدرّس، إضافة الى مناهج متخصصة في الإبداع والابتكار.

إن التدريب المهني وتطوير الشخصية والمهارات هما المسار المستحق للمرحلة المقبلة، وهو نهج تبنّته «لوياك» منذ تأسيسها، وكان له دور كبير في تأهيل الكوادر الوطنية بمجالات مهنية متنوعة لم تكن مطروقة من قبل، كما استجابت «لوياك» بفروعها ومؤسساتها التابعة بسرعة قياسية لمعطيات وتحديات جائحة «كورونا»، وتحولت في خدماتها التعليمية والتدريبية إلى الـ «أونلاين» منذ بدايات الحظر.

أرى أن على الحكومة الكويتية، بالتعاون مع مؤسسة التقدم العلمي، مسؤولية في دعم الأطباء والمبتكرين والمخترعين الكويتيين الذين حازوا اعترافاً عالمياً، مثل د. الرشدان في مجال الطب، والمخترع صادق قاسم، وغيرهما كثر، ويكون هذا الدعم على هيئة تمويل بحوثهم وابتكاراتهم العلمية أو الثقافية، وتأسيس مراكز أو مختبرات بأسمائهم، على أن يتكفّلوا بتدريب عدد من الطلاب الكويتيين سنوياً في مختبراتهم.

إن تطبيق هذا المقترح بجعل المبدع أو المبتكر معلّماً، من شأنه أن يرفع كفاءة الكوادر الوطنية، ويشجّع الشباب على الاتجاه للعلوم والتكنولوجيا.

أعتقد أن «الوظائف عن بُعد» ستحلّ مشاكل البطالة في السوق العربي، وترفع مستوى كفاءة الكوادر في السوقين المحلي والإقليمي، كما ستوفر تكاليف كثيرة على المؤسسات الخاصة والحكومات على حد سواء.

إننا نسعى من خلال منصة التدريب العملي الإقليمي المشترك لـ «لوياك» في الكويت ولبنان والأردن واليمن إلى أن نوفر أفضل الفرص التدريبية العملية للشباب المجتهدين الراغبين في تطوير مهاراتهم، مما سيفتح لاحقاً سوق الوظائف عن بُعد، ويوفّر للشركات العربية أفضل الكوادر، ويعد التوظيف عن بُعد حلّا لمشاكل كثيرة، وقد تحوّلنا في «لوياك» بالفعل إلى هذا النظام باستخدام الخبرات العربية والأجنبية عن بُعد.

لقد باتت استدامة مؤسسات المجتمع المدني ضرورة، وقد أثبتت الأزمات فعالية دور مؤسسات المجتمع المدني، لذا فإن الحفاظ على استدامة وتمكين المؤسسات الفاعلة يجب أن يكونا ضمن الرؤية العامة للدولة، والمشاريع المدرّة للدخل هي إحدى أهم أدوات الاستدامة، لكن على الشركاء من القطاعين الحكومي والخاص مساعدة تلك المؤسسات على تحقيق هذه الاستدامة بإتاحة الفرص لها، وهذا بدوره سيوفر فرص عمل للشباب، ويسمح بانطلاق مبادراتهم الخاصة، كما أن دعم القطاع المدني بهذا الاتجاه سيساهم في تكريس مفاهيم جديدة في ريادة الأعمال المجتمعية، أي الشركات ذات الأهداف التنموية المجتمعية التي تقوم على مبدأ الربح للجميع وينشط الدورة الاقتصادية.

إننا نسعى إلى استدامة مشاريعنا التنموية من خلال مبادرات ومشاريع تابعة مدرة للدخل ذات جدوى وعائد على المجتمع يديرها الشباب كشريك فيها، بغرض تقليل اعتمادنا على الرعايات، وقد أسسناها بجهود حثيثة خلال عقدين من العمل الدؤوب، بهدف المحافظة على دور «لوياك» في تمكين الشباب وتوفير مظلة آمنة لانطلاق مشاريعهم.

إن حضارة الأمم لا تُبنى بالعِلم وحده، فالفنون رافد أساسي من روافد الحضارة والاقتصاد، وقد أثبتت جائحة «كورونا» حاجة الناس إلى الفنون كنظام دعم نفسي وعاطفي، وأهمية دوره في نشر الرسائل التوعوية والأفكار المهمة، بل إن النهضة الحقيقية لا تتحقق إلا بتفعيل دور الفنون.

وعلى الحكومة والقطاعين الخاص والمدني مسؤولية مشتركة في الحرص على تنشيط الحركة الثقافية والفنية في الكويت، والحرص على جودة المحتوى بالتعاون مع الكفاءات العربية والأجنبية اللازمة، بغرض رفع مستوى الكوادر الوطنية في شتى أنواع الفنون.

لقد كانت الثقافة والفنون، ولا تزال، ضمن أولوياتنا من خلال أكاديمية لوياك للفنون، وقد لمسنا فعلياً تأثير دعم وتطوير المواهب على تحريك عجلة الاقتصاد الوطني، من حيث غزارة الإنتاج الفني والمسرحي من جهة، والمساهمة في التأسيس لقطاع الترفيه الثقافي والفني النوعي من جهة أخرى، وخلق فرص عمل جديدة في هذا القطاع.

على الحكومة مسؤولية مستقبلية أكبر في دعم وتشجيع المؤسسات الوطنية العاملة في مجال الفنون، وخصوصاً غير الربحية منها، التي أثبتت قدرتها على التدريب والتطوير ورعاية المواهب التي تتطلب اهتماماً خاصاً ونوعياً.

*فارعة السقاف مؤسِّسة ورئيسة مجلس إدارة منظمة لوياك بدولة الكويت