عندما نتحدث عن الثقافة يحتل الكتاب مكان الصدارة بين وسائل نشرها، وتلعب طريقة تداول الكتاب ووضعه في متناول أكبر عدد من القراء، دوراً مهماً في نشر الثقافة وتحقيق أهدافها.

​ولعل بعض الأمثلة الطريفة عن توافر الكتب ووضعها تحت تصرف القراء يعطي فكرة عن تعامل الشعوب من هذه الأداة الرئيسية والحيوية لنشر الثقافة. وليسمح لي القارئ الكريم أن أذكر بعض التجارب الشخصية التي يمكن أن تعطي فكرة عن التعامل من الكتاب.

Ad

​في عصر يوم أحد، وقد خرجنا، زوجتي وأنا للمشي، مررنا أمام موقف لإحدى الحافلات، وفيه مقعد عليه كتاب. رأيته وتابعت طريقي، ولكني عدت أدراجي وأمسكت بالكتاب أقرأ عنوانه فإذا به رواية، واستغربت أن يتركه صاحبه بهذا الشكل، وقلبت صفحاته لأجد ورقة مكتوب عليها ما معناه: تركت لك هذا الكتاب لتقرأه مجانا، وتعيده إلى هذا المكان أو أي مكان آخر، ليأخذه شخص آخر ويقرأه.

ودهشت من هذا الموقف واستغربت، ولكن سرعان ما فهمت المقصود: عندي كتاب قرأته ولا أريد أن أرميه، بل أريد أن يستفيد منه غيري. وأدركت بأنها طريقة ينتقل بها الكتاب من يد إلى أخرى، بشكل مجاني وسلس، بشرط ألا يترك من يأخذ الكتاب، هذا الكتاب في مكتبته أو يرميه، وإلا لما تحقق المطلوب من هذا الفعل الذكي والواعي، بل والحضاري من صاحب الكتاب.

أخذت الكتاب، وأبقيته عندي أسبوعا، ثم وضعته على مقعد أحد الحافلات، لعل أحد يأخذه ويقوم بدوره بوضعه في مكان يتيح لشخص آخر أن يستعيره. وانتبهت لاحقا إلى مبادرة تقوم بها بعض بلديات المدن الألمانية، وهي قريبة من مدينة ستراسبورغ الفرنسية، حيث أقيم. في إحدى ساحات مدينة ألمانية صغيرة يوجد مكتبة على رفوفها مجموعة من الكتب متاحة للجميع. يمكن لأي شخص أن يأخذ كتابا ويبقيه عنده لفترة ومن ثم يعيده، ويمكن لشخص آخر أن يأخذ كتابا يعجبه ليحتفظ به، ولكن بشرط أن يضع مكانه كتابا آخر. لقد وضعت البلدية هذه التعليمات، ولكن لم تعين حارسا أو مراقبا لهذه المكتبة، وتركت الأمر لأخلاق الناس وسلوكهم وطريقة تعاملهم مع الكتب. أليست هذه وسيلة حضارية أخلاقية سهلة لنشر الكتب وتداولها وبمختلف اللغات؟ هل يمكن أن نرى في يوم ما في ساحات مدننا وقرانا العربية مثل هذه المكتبات المجانية والمتاحة ييسر وسهولة للجميع؟

​أما عن عادة اقتناء الكتب، فآخر كتب اشتريتها في شهر يونيو، واحد منها عن الحق في اللجوء، وآخر عن الشخصية الفرنسية المشهورة نابليون بونابرت بطبعة مبسطة بتواريخ معاركه والأحداث التي شارك فيها، والانجازات التي حققها، ومن بينها اعتماد (قانون نابليون) عام 1807، والذي أصبح يُعرف بالقانون المدني الفرنسي، الذي اعتمدت عليه العديد من البلدان العربية لصياغة قوانينها المدنية، والمؤسسات التي أسسها مثل: المعهد الفرنسي عام 1795 والذي يجمع نخبة العلماء، والأدباء والفنانين في فرنسا، ومجلس الدولة الفرنسي عام 1799، وغيرها من المؤسسات، والكتاب الثالث عن الجنرال ديغول بطبعة أيضا مبسطة صدرت، إلى جانب العديد من الكتب عن حياته وأعماله وإنجازاته، بمناسبة احتفال فرنسا بمرور سبعة عقود على تاريخ النداء، الذي أطلقه عبر أثير إذاعة «بي بي سي» بتاريخ 18/6/1940، والذي طالب فيه الشعب الفرنسي بألا يستسلم للهزيمة التي ألحقتها قوات ألمانيا النازية بالقوات الفرنسية، ودعا ديغول في ندائه المشهور هذا كل الوطنيين والضباط والرافضين للاحتلال، والقادرين على حمل السلاح من الشعب الفرنسي للحاق به في لندن، لبدء المقاومة ومحاربة القوات النازية.

اشتريت هذه الكتب الثلاثة من إحدى المكتبات التي فتحت أخيرا أبوابها، بعد رفع الحجز والإغلاق الذي فرض بأوقات مختلفة وبدرجات متعددة في فرنسا، خلال ثلاثة أشهر. واشتريت كتابا رابعا، ولكن هذه المرة من أحد بائعي الكتب القديمة، التي تباع ثلاث مرات في الأسبوع بالساحة الرئيسية بمدينة ستراسبورغ (على شاكلة الكتب التي تباع على سور الأزبكية في القاهرة، وشوارع بعض المدن العربية أيضاً، وبخاصة يوم الجمعة)، واسم هذه الساحة «ساحة كليبر»، حيث تم إطلاق اسم الجنرال جان باتيست كليبر، الذي خلَف الجنرال نابليون بونابرت في مصر بعد عودته إلى فرنسا عام 1799، تاركا مكانه الجنرال كليبر، والذي اغتاله الطالب السوري من حلب سليمان الحلبي عام 1800. وبما أن هذا الجنرال قد ولد في مدينة ستراسبورغ، فقد سميت الساحة الرئيسية باسمه، وكذلك العديد من شوارع المدينة والمدن الصغيرة المجاورة لها باسمه، ولو أن العديد من سكان ستراسبورغ يجهل هذه التفاصيل، ولا أحد يجيب حين نسأل مثلا: لماذا يوجد تمثال صغير لأبي الهول عند قدمي تمثال الجنرال كليبر في الساحة؟ وأكيد أن وجود هذا التمثال يذكر بالفترة التي عاشها هذا الجنرال في مصر. أقول اشتريت من هذه الساحة، ومن أحد باعة الكتب القديمة كتابا عن زوجة الجنرال ديغول (أيفون ديغول)، بطبعة صدرت منذ عدة سنوات، وأنا بصدد قراءتها هذه الأيام، رغبة بمعرفة تفاصيل حياة ومواقف هذه المرأة التي صاحبت الجنرال طوال حياته وفي أيام اليسر والعسر، والتي يُقال إنها عاشت في ظله، ولو أنني أعتقد، ولا أزال أقرأ في الكتاب، أنها لعبت دورا مهما إلى جانبه، ولو أنني لا أتصور أن الجنرال ديغول كان ليجيب على سؤال طرح عليه، كما أجاب الرئيس كيندي حين سأله أحد الصحافيين عن زيارة لباريس عام 1961، فأجاب: «أنا الشخص الذي أتى مرافقا لجاكي كيندي»؟ ويقصد زوجته. لا أعتقد بأن الجنرال ديغول كان ليجيب بنفس الطريقة، ولكن هذا لا يعني بأن زوجته لم تلعب دورا أساسيا في حياته.

ولا يمكن أن أُفوّت الفرصة أخيرا، وأنا أكتب على صفحات جريدة كويتية، أن أشيد بريادة الكويت في وضع العديد من الكتب التي تصدر دوريا، وتعالج مختلف المواضيع، وبأسعار زهيدة، في متناول قراء العربية في مختلف البلدان، ومن بين هذه الكتب: سلسلة عالم المعرفة، وسلسلة إبداعات عالمية، ومجلة عالم الفكر، ومجلة الثقافة العالمية. وأذكر بهذه المناسبة، أنني اشتريت بدمشق العدد الأول من عالم المعرفة الصادر عام 1978، وكان موضوعه: الحضارة. دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها، تأليف د. حسين مؤنس. واشتركت حين سافرت إلى فرنسا، ولفترة قصيرة، بهذه السلسلة، وكنت سعيدا بوصول أعدادها لعنواني في مدينة ستراسبورغ.

​تتيح لنا الكتب دخول عوالم مختلفة فتزيد معرفتنا، وتغني ثقافتنا، وتزين مكتباتنا، وتؤنس مجالسنا، وكما قال المتنبي: وخير جليس في الزمان كتاب.

* أكاديمي وكاتب سوري مقيم بفرنسا