يبدو أن والدي استفاد من سفرته الأولى إلى لبنان في عام 1943، واكتسب تجارب عديدة من واقع حبّه للاستطلاع والاحتكاك بالمجتمع وحُسن التصرُّف بطريقة سلسة، والاندماج ومخالطة الناس، وعدم المكوث في مكان واحد مدة طويلة، وللرغبة المستمرة لاكتشاف كل شيء.

واستكمالاً للمقال السابق، فعندما وصل الباص ووطئت قدما الوالد برمانا، وجدها عالماً آخر في الرُّقي. وهذه البلدة عرفها الغرب قبل العرب، وتُعد مصيفاً جميلاً جداً، فسكن بفندق صغير اسمه "قصر الصنوبر"، وكان يقدِّم ثلاث وجبات في اليوم بسعر ليرتين ونصف الليرة، أي ما يعادل ربع دينار.

Ad

وخلال تجواله بالبلدة شاهد كلية برمانا العالية، وسبق أن سمع عنها من صديقه المرحوم المؤرّخ بدر خالد البدر، الذي درس فيها مطلع الثلاثينيات، وامتدح مستواها ومناهجها الدراسية.

وفي عام 1944 سافر الوالد إلى لبنان، مصطحباً معه شقيقي الأكبر بدر، وأدخله في القسم الداخلي بالكلية، بعد مقاومة شديدة من بدر، لرفضه الالتحاق، ورغبته في العودة إلى الكويت.

لكنّ الوالد أدخله بالقوة، وذهب إلى بلدة قريبة من برمانا، تُعرف باسم بكفيا.

وفي بكفيا تعرَّف إلى الشيخ رؤول الجْمَيّل، وهو شقيق بيار الجْمَيّل، مؤسس حزب الكتائب اللبناني، وأصبحت بينهما ألفة وصداقة. وتشاء المصادفة أن يأتي الشيخ رؤول إلى الكويت في الخمسينيات، ويعمل مديراً عاماً لشركات عائلة الحمد الكريمة، وظلَّ بالكويت إلى ما بعد التحرير، إلى أن توفّاه الله بالكويت بعد عُمر طويل.

بعد أسبوع من التحاق أخي بدر بالكلية، ورد للوالد اتصال منها، للحضور حالاً، ويبدو لأمر جلل، فقد أضرب الأخ بدر عن الطعام، ورفض الانصياع للتعليمات الدقيقة من الكليّة، وأعلن رغبته في العودة للكويت... وتحقّق له ما أراد. ويبدو لي أنه لا يُلام على ذلك، نتيجة العزلة التامة في السكن الداخلي، واختلاف طبيعة وكلام وديانة وتصرّفات مَنْ حوله، ولعلّ ذلك خير أراده له الله، واستفاد عند عودته للكويت، وحقّق طموحاته في الحياة.

بالنسبة للصورة، التُقطت في بلدة بكفيا اللبنانية، ويبدو الوالد مع الشقيق بدر. أما الطفلة، فهي إحدى بنات عائلة الجْمَيّل اللبنانية.