مع اندلاع المظاهرات والاحتجاجات في معظم الولايات المتحدة الأميركية، انقسم العرب - كعادتهم - بين مؤيد ومعارض لما يجري هناك وراء المحيط الأطلنطي، وغالباً ما بُنيت مواقفهم - وكعادتهم أيضاً - دون أدنى اطلاع على جذور الصراعات العرقية والاجتماعية والتاريخ السياسي للولايات المتحدة الأميركية، بل على طريقة التشجيع الرياضي المعتادة لدى إخوتنا في الدم واللغة والدين والتاريخ والكورونا.

الجريمة المرتكبة بحق المواطن الأميركي "فلويد" في مدينة مينيابوليس "الديمقراطية" تكمل سلسلة تاريخية ممتدة من الجرائم المشابهة، نتذكر منها، وليست آخرها، حادثة رودني كينغ الشهيرة، الذي تعرض للاعتداء في عهد الرئيس "الجمهوري" بوش الأب، وانطلقت بعدها الاحتجاجات وأعمال التخريب والشغب المشابهة لما يجري اليوم في ولاية كلينتون "الديمقراطي"، وقد كانت ومازالت مثل هذه المظاهرات تخرج احتجاجاً ضد العنصرية وممارسات رجال الشرطة العنيفة والتساهل الإداري والقضائي المتكرر في التعامل مع جرائمهم ضد الأقليات والمختلفين، ولم ينقسم الناس حول العالم ويشخصنوا القضية دفاعاً أو تشفياً من السيد ترامب ليحددوا مواقفهم منها، سوى جماعتنا، حيث خرجت آراؤهم على مقتل فلويد وآثاره بناء على مواقف الرئيس ترامب من الأزمة الخليجية والعلاقات بإيران ومجمل القضايا المتعلقة بالمنطقة هنا، لتنعكس على موقفهم وتحليلاتهم لما يجري في أميركا هناك، ولينظروا بواسطة هذه النظارات محدودة الرؤية إلى حدث أميركي داخلي ذي جذور عميقة وقديمة وشائكة، فخلطوا التحليل السياسي الفني بالخيال العاطفي الرغبوي، ثم وزعوا أنفسهم ونزلوا خنادقهم استعداداً للمعركة الخاصة بهم، فمن يكره ترامب يفسر، أو بالأصح يتمنى أن ما يجري هو ثورة لإسقاط النظام، وكأن النظام السياسي الأميركي العريق نظام عربي من إياهم، ومن يدافع عن ترامب يبرر لعنف رجال الشرطة وكأنهم يمثلون النظام الرئاسي بقيادة ترامب في واشنطن، ويتلقون تعليماتهم المباشرة منه، وكلا الفريقين ينطلق في وجهة نظره وتحديد معاييره القيمية المؤقتة من منطلق النكاية بالآخر، وبما يناسب حسابات المحاور الإقليمية والتحالفات السياسية في المنطقة، فتتحدد بناء عليها مواقفهم من هذه القضية الأميركية المحلية ذات الأبعاد المتشعبة.

Ad

ومع مشاهداتك المتكررة لأمثال هؤلاء المحسوبين علينا كساسة ومحللين ونخب بإمكانك أن تكتشف بسهولة أسباب خسارة العرب لمعظم معاركهم السياسية والإعلامية وقضاياهم العادلة والمصيرية. كل يغني على ليلاه الممسوخة، فهذا يدافع عن موقفه بشعارات المثالية والمبادئ وحقوق الإنسان، والآخر يتمسح بالعقلانية والواقعية، فلا احترام يذكر لعقل الإنسان ولا لإنسانيته ولا حتى لمبادئ التحليل السياسي، فلو أن مواقف السيد ترامب من قضايا منطقتنا كانت مغايرة لما هي عليه الآن، لانقلبت مواقفهم وتبادلوا الأدوار وتطايرت المبادئ والشعارات ومعهما توكل كرمان، وأخذت في طريقها تلك العقلانية المزعومة، وبرفقة كل مصطلحات وعبارات التحليل السياسي المبتذلة التي أريقت عبثاً من الطرفين في هذه الأزمة الأميركية الداخلية، ليس المرحوم "فلويد" فقط من يريد أن يتنفس.