لما كانت الليلة الثالثة والعشرين بعد الستمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، أن إبراهيم بن الخصيب بقي نائما في المجلس الذي أوصله إليه بواب البستان، إلى أن رجع إليه في صباح اليوم التالي وأيقظه. وبعد أن تناولا طعام الإفطار معا، قال له: هل مازلت مصراً على أن ترى سيدتي جميلة، رغم المخاطر التي أخبرك بها أخي؟... فقال له: نعم، وأنا على استعداد أن أضحي بروحي في سبيل ذلك. ثم أخرج من الجراب الذي معه جوهرة كبيرة نادرة، وكيسا فيه ألف دينار، وقال له: هذه هدية بسيطة أرجو أن تقبلها مني، ولك أضعافها مع الشكر الجزيل بعد أن أبلغ مرادي. فأخذ منه الجوهرة والكيس مسرورا، وقال له: هل ترى العريشة التي فوق تلك الشجرة العالية المطلة على هذا المجلس؟ إنني سأجعلك تصعد إليها وتختبئ فيها، ثم تبقى هناك وأجيء أنا إليك بالطعام والشراب كل يوم، إلى أن تحضر سيدتي وجواريها، فتراهن من حيث لا يشعرن. وإياك أن تأتي بأي حركة تلفت أنظارهن إليك، وإلا كان في ذلك هلاكنا. فقال له: سمعا وطاعة. وظل إبراهيم بن الخصيب سبعة أيام بلياليها وهو مختبئ في تلك العريشة التي فوق الشجرة، وبواب البستان الأحدب يحمل إليه الطعام والشراب.

وفي اليوم الثامن توجه إليه في الصباح، وقال له: إن السيدة جميلة أرسلت رسولا من عندها لإعداد مجلسها في القبة الأخرى وستحضر بعد قليل مع جواريها، فتعال معي لكي أريك هذا المجلس الآخر، ثم تصعد على عريشة كهذه فوق شجرة قريبة من هناك. فنزل إبراهيم بن الخصيب مسرعا، ومشى معه إلى ذلك المجلس الآخر، فإذا هو أفخم وأبدع وأروع. وفي وسطه نافورة جميلة التنسيق، تحيط بها تماثيل لحيوانات وطيور، يخرج الماء من أفواها إلى أحواض فرشت أرضها بالزمرد والياقوت والزبردج، وحولها أشجار الورد من مختلف الألوان.

Ad

وقد جعل جريان الماء داخل أجسام التماثيل، ثم نزوله من أفواهها إلى الأحواض بحيث تحدث أصواتا موسيقية تطرب لها الأسماع. وفي الجهة المقابلة لهذه النافورة ساقية قواديسها من الذهب والجواهر، وحولهما سور من الأبنوس والعاج، من خلفه أقفاص في بعضها أسود وأفيال ونمور وفهود وثعالب وذئاب وما إليها، وفي بعضها طيور وعصافير مغردة من مختلف الألوان! كاد إبراهيم يذهل عن نفسه وهو يتفرج على في ذلك المجلس من مناظر تسلب الألباب، ثم نبهه بواب البستان إلى وجوب اختبائه في العريشة الجديدة، فعل، وأخذ ينظر من خلال مكانه إلى ذلك المجلس، وقلبه يخفق فرحاً بقرب رؤية حبيبة قلبه التي عشقها من صورتها. ولم تمض ساعة، حتى وصلت إلى سمعه ضحكات ناعمة رقيقة كأنها تغريد البلابل، أو رنات الأوتار.

خفة ودلال

ثم فتح باب القبة ودخل منه 10 من الجواري كل منهن كأنها البدر في ليلة تمامه، ولما وصلن إلى النافورة جلسن على حافتها. ثم أقبلت بعد ذلك خمسون جارية أخرى أجمل وأروع، وهن يحملن آلات العزف، وجلسن على الآرائك الموضوعة في المجلس متكئات على وسائد من خالص الحرير وريش النعام. ثم جعلن يتضاحكن ويلاعب بعضهن بخفة ودلال، وهو ينظر إليهن حائرا ذاهلا لا يدري أيهن حبيبته صاحبة الصورة، إذ كن متشابهات الوجوه. والأجسام كأنهن توائم، أو تماثيل من الشمع الأبيض صبت في قالب واحد. وفيما هو كذلك إذا بهن جميعا قد وقفن فجأة ورفعن أيديهن بالتحية، بينما دخلت من باب القبة فتاة ما كاد يرى وجهها حتى اشتد خفقان قلبه، ولولا أنه تمالك نفسه لوقع من فوق الشجرة، ذلك لأنه عرف أن هذه الفتاة حبيبة قلبه، جميلة بنت أبي الليث. ثم أخذ يتابعها بنظراته حتى وصلت إلى كرسي فخم وسط تلك الأرائك وجلست! وبعد قليل، قامت الجواري يرقصن، ثم جلسن يأكلن ويشربن ويتضاحكن نحو ساعة، وبعد ذلك أخذت الجواري العازفات في الضرب على الآلات المختلفة، بينما الجواري المغنيات يتناوبن الغناء بألحان تطرب الحجر الجلمود. ولما انتهين من الغناء قبلن الأرض بين يدي سيدتهن جميلة، والتمسن منها أن تغني كعادتها، فتمنعت أول الأمر، ثم أمسكت العود وعزفت عليه بطريقة لا يعرفها إلا الراسخون في الفن. وبعد ذلك غنت بصوت عذب حنون: كما اشتهت خلقت، حتى إذا اعتدلت في قالب الحسن، لا طول ولا قصر كأنها خلقت من ماء لؤلؤة في كل جارحة من حسنها قمر، ولم يتمالك إبراهيم نفسه من شدة طربه، فشق ثوبه من حيث لا يشعر. ثم عزفت على العود بطريقة أعجب وأغرب، وغنت تقول: وراقص مثل غصن البان قامته تكاد تذهب روحي من تنقله لا تستقر له في رقصه قدم كأنما نار قلبي تحت أرجله.

فقامت الجواري كلهن وأخذن يرقصن من حولها وهن يصحن صيحات الطرب والسرور. ولم يزلن كذلك ساعة من الزمان، ثم عزفت جميلة على العود بطريقة ثالثة جديدة، وغنت هذين البيتين:

أراك فلا أرد الطرف كيلا تكون حجاب رؤيتك الجفون

ولو أني نظرت بكل لحظ لما استوفت محاسنك العيون

وكاد إبراهيم بن الخصيب يقذف بنفسه من فوق الشجرة لفرط طربه وهيامه، ولم يتمالك نفسه فانطلقت من حلقه صرخة لم يستطع حبسها، وحانت من جميلة التفاتة إلى جهة الشجرة التي هو عليها، فرأت وجهه من خلال الأغصان المتشابكة، وسرعان ما نهضت وأخرجت من منطقتها خنجرا لامعا، وهمت بأن تقذفه به فتصرعه، لكن قلبها لم يطاوعها على ذلك، فأعادت الخنجر كما كان، ثم نادت جواريها فأقبلن ووقفن بين يديها سائلات عما تريد، فأمرتهن بمغادرة القبة فورا، ولم يسعهن إلا السمع والطاعة. وخرجن متعجبات لا يدرين سبب غضبها وأمرها اياهن بالخروج.

لعبة الشطرنج

ولما صارت وحدها في المجلس، سارت حتى وقفت تحت الشجرة، وصاحت بإبراهيم وهو مختبئ في العريشة: انزل فورا وإلا قذفتك بخنجري. فلم يسعه إلا نزل، وقبل الأرض بين يديها، ثم وقف مطرقا وعيناه تفيضان بالعبرات، فقالت له: اصدقني القول ولا تكتم عني شيئا، وإلا كنت الجاني على نفسك. فقال لها: إنني يا سيدتي إبراهيم بن الخصيب والي مصر. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

فلما كانت الليلة الرابعة والعشرين بعد الستمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد ان إبراهيم قص عليها حكايته من أولها إلى آخرها، ولم يخف عليها شيئا. فلما انتهى من قصته، قالت له: والله إنها لقصة عجيبة، وأعجب منها أنني عشقتك أيضا على السماع منذ حدثتني الجواري المصريات بصفاتك. ولكن لكي يطمئن قلبي، سألاعبك الآن بالشطرنج دورا واحدا، فإن غلبتني كنت أنت إبراهيم بن الخصيب حقا، ثم مضت به إلى المجلس الذي كانت فيه مع جواريها، وجاءت بالشطرنج وجلست تلاعبه، فلم تمض دقيقة حتى غلبها، فطلبت منه أن يلاعبها من جديد، فقبل وغلبها تسعة أدوار أخرى.

وحينئذ لم تتمالك نفسها وبكت وهي منسمرة بجانبه. ثم سمعا أصوات الجواري وبواب البستان خارج القبة، فقالت له: هيا نهرب من هذا المكان. ثم أخذت بيده وقادته إلى طريق داخل البستان أدى بهما إلى شاطئ النهر وهناك وجدا زورقا فركباه وأسرعا به قاصدين إلى الشاطئ الآخر، فلما بلغاه، وجدا سفينة كبيرة تهم بالمسير، وسألا رئيس الملاحين فيها عن وجهته. فقال لهما: إننا مسافران إلى بغداد. فلما سمعا ذلك تملكهما السرور، وركبا فيها. ولم تمض ساعة حتى كانت السفينة تسير بهما في ريح طيبة، ولم تزل كذلك حتى أقبل المساء، وأراد رئيس الملاحين أن يرسو بالسفينة على الشاطئ حتى الفجر، فدعاه إبراهيم بن الخصيب وأعطاه مئة دينار ذهبا وقال له: واصل السير بالسفينة حتى تصل إلى بغداد، وهناك أكافئك بأضعاف ذلك. فقال رئيس السفينة: سمعا وطاعة. وواصل سيره بها ليل نهار حتى وصل إلى بغداد.

شرط وانتقام

وكان إبراهيم قد أخبر جميلة بالشرط الذي اشترطه عليه ابن عمها أبوالقاسم، فلم تعلق على ذلك بشيء أول الأمر، لكنها بعد أن وصلا إلى بغداد، واقترح عليها أن يذهبا إلى دار أبي القاسم تنفيذا لذلك الشرط، لم توافقه على ذلك، وقالت له: إنه ابن عمي، وأنا أدرى به. ولا شك أنه ما أشترط عليك ذلك الشرط إلا لكي ينتقم مني ومنك شر انتقام.

مصيدة أبوالقاسم

فقال لها إبراهيم: إنه أكرمني كل الإكرام حينما نزلت عنده، وهو الذي أعد السفينة التي نقلتني من هنا إلى البصرة. ولم يزل إبراهيم يلح عليها حتى قبلت الذهاب معه إلى دار أبي القاسم ابن عمها. فلما وصلا إليها ورآهما أبو القاسم، نهض لاستقبالهما وعلى وجهه إمارات البشر والسرور. ثم أمر بتعليق الزينات في الدار، وأقام لهما حفلة كبيرة، وأبى ألا أن يقف طول الوقت في خدمتهما، مكررا لهما التهنئة باجتماع شملهما.

وفي نهاية الحفلة بعد منتصف الليل، جاء إليهما بعلبة كبيرة من الذهب المطعم بالجواهر، وفتحها فإذا فيها نوع من الحلوى الفاخرة، قدم لكل منهما قطعة منها قائلا: لقد صنعتها بيدي لأقدمها لكما ابتهاجا بتحقيق آمالكما. فتقبلا هديته بالشكر، وما كاد يتذوقان تلك الحلوى حتى وقعا مغشيا عليهما، إذ إنها كانت محشوة بالبنج! ولما أفاق إبراهيم بن الخصيب، فتح عينيه، وأخذ ينظر إلى ما حوله، فإذا هو في مكان مقزز قذر، وليس على جسمه غير سروال مهلهل لا يكاد يستر عورته، ثم رأى بجانبه امرأة نائمة فظن أنها حبيبته جميلة وحمد الله على نجاتها، ثم مد إليها يده ليوقظها، فإذا بالدم يتدفق منها ويلوث يده. ولم يسعه إلا أن نهض من مرقده وهو يصرخ من الرعب والفزع والحزن. وأقبل على صراخه بعض الشرطة، فلما رأوه واقفا بجانب جثة القتيل ويده ملوثة بالدم، قبضوا عليه وساقوه مقيدا بالأغلال، إلى أن أوقفوه بين يدى الوالي قائلين: هذا الشاب المجرم هو الذي قتل جارتك بعد أن خطفها من قصرك. فلم يتمالك الوالي نفسه من شدة الغضب والغيظ وقال لهم: إن القتل وحده لا يكفي عقابا لهذا المجرم الأثيم، ولابد أن نقطع يديه ورجليه وكل أطرفه أولا. فلما سمع إبراهيم كلام الوالي، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحاول أن يشرح قصته للوالي، فرفض أن يستمع له، وأمر أعوانه بتنفيذ الحكم الذي أصدره لهم فورا، وسرعان ما تقدم السياف وجره إلى النطع لقطع يديه ورجليه وأطرافه ثم ضرب عنقه، فمشى معه إبراهيم وينشد هذين البيتين:

مشيناها خطى كتبت علينا ومن كتبت عليه خطى مشاها

ومن كانت منيته بأرض فليس يموت في أرض سواها

وما كاد يتم إنشاده حتى رأى السياف قد رفع سيفه ونظر إلى الوالي منتظرا إشارته ببدء التنفيذ. فأظلمت الدنيا في عينيه، ووقع على النطع مغشيا عليه! وأدرك شهر زاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

النهاية السعيدة

كانت الليلة الخامسة والعشرين بعد الستمئة، وقالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، أن إبراهيم بن الخصيب، لما أفاق من إغمائه في هذه المرة، ماكاد يفتح عينيه، حتى أخذ ينظر إلى يديه ورجليه، ويتحسس أنفه وشفتيه وأذنيه... غير مصدق أنها مازالت في مكانها ولم يقطعها السياف. ثم نظر حوله فإذا هو في غرفة حسنة الأثاث، مزخرفة الجدران، وتحته سرير فخم نظيف الفراش، وكان وجهه إلى جهة الحائط، فلما تقلب وأدار وجهه فإذا به يجد شيخا نائما وهو جالس على كرسي بجانب السرير، ولما تأمل في وجهه لم نفسه من الصياح لفرط دهشته، إذ تبين أن هذا الشيخ هو وزير أبيه في مصر. وانتبه الشيخ من إغفائه على ذلك الصياح، فلما رأى إبراهيم جالسا في السرير، ابتسم مسرورا، وقال له: لا بأس عليك يا ولدي، استرح حتى يتم رجوع عافيتك. ولكن إبراهيم ألقى بنفسه عليه وأخذ يعانقه وهو يبكي، إلى أن أجلسه الوزير على السرير، وقال له: إن والدك وأهلك كلهم بخير والحمد لله، وقد علمنا بأمر مجيئك إلى بغداد من بائع الكتب الذى اشتريت منه الكتاب والصورة، فأرسلني والدك إلى الخليفة هارون الرشيد للبحث عنك.

فلما جئت وقابلته ورويت له قصتك، اهتم بأمرك كل الأهتمام، وأرسل في طلب الوالي ليكلفه البحث عنك، ولما قيل له: ان الوالي مشغول بالاقتصاص من شاب مجرم قبض عليه متلبسا بجريمة قتل جارية له، لم يشأ الانتظار، وقام وأخذني معه إلى ديوان الوالي لمشاهدة ذلك القصاص، وما كدت أراك ممدا في النطع والسياف يهم بضربك، حتى عرفتك ورميت نفسي عليك، فعجب الخليفة كل العجب، ثم اشتد عجبه حينما علم أنك إبراهيم بن الخصيب. وجاء الشرطة خلال ذلك وقالوا إنهم قبضوا على القاتل الحقيقي لجارية الوالي، كما قبضوا على أبي القاسم الصيدلاني وهو يهم بذبح جميلة بنت عمه وحبيبتك.

واعترف أبوالقاسم أمام الخليفة. وهي الآن بخير مثلك والحمد لله. وقد أرسل الخليفة إلى والدها فحضر إلى هنا أيضا وخطب منه الخليفة ابنته لك، فقبل مسرورا.

وكلنا الآن في انتظار شفائك لإتمام الزواج. فلما سمع إبراهيم كلام وزير أبيه، لم يتمالك نفسه من البكاء لشدة فرحه، ثم قال له: إني الآن في أحسن صحة وعافية.

فأخذه الوزير وتوجها معا إلى مجلس الرشيد، فرحب بإبراهيم، كما رحب به أبوالليث والد جميلة، وكان حاضرا في المجلس. ثم أرسل الخليفة في طلب القاضي والشهود، فلما حضروا أمرهم بعقد قران إبراهيم بجميلة. ثم أمر بأن يخصص لهما قصرا من قصوره ليقيما به أربعين يوما في ضيافته. وبعد ذلك عاد إبراهيم وعروسه ووزير والده إلى مصر، مزودين بالهدايا الثمينة من الخليفة وأبى الليث والي البصرة والد جميلة. وكان يوم وصولهم إلى مصر من أيام الأعياد، إذ أقيمت فيه الأفراح في كل مكان.