ولما كانت الليلة الحادية والعشرون بعد الستمئة، قالت شهرزاد: ما إن وصل ابن الخصيب والبدوي إلى بغداد بسلامة الله، حتى أعطى ابن الخصيب للبدوي مئة دينار والجوادين، وجوهرة تساوى أكثر من مئة دينار. ثم ودعه ودخل المدينة وحده، حيث سأل عن حارة الكرخ، وتوجه إليها حاملا جراب الجواهر، والكتاب الذي فيه صورة الفتاة التي افتتن بها وترك بلده وأهله من أجلها. ولما وصل إلى مدخل الكرخ، وجده سوقا للتجار، ورأى في صدره دكانا له باب ذو مصراعين في كل منهما حلقة من الفضة، وفي داخله مصطبة من الرخام عليها سجادة ثمينة جلس عليها شاب حسن الوجه يرتدى ثيابا فاخرة، وبين يديه خمسة من المماليك كأنهم الأقمار. فوقف ابن الخصيب أمام ذلك الباب، وألقى السلام على الشاب فرد السلام في أدب واحترام، ودعاه إلى الجلوس بجانبه حيث أكرمه كل الإكرام. ثم سأله: من أي البلاد أنت، وهل من خدمة أؤديها لك؟

Ad

وليمة كبيرة

قال له: أنا من مصر، واسمى ابراهيم، وأريد أن تدلني على دار أسكنها. فقال له الشاب: أنت ضيفي، ولابد أن تنزل عندي في داري مدة الضيافة وهي ثلاثة أيام، وبعد ذلك تكون الدار التي تريدها معدة لسكنك فيها إن شاء الله. فشكره إبراهيم بن الخصيب على كرمه وأريحيته، وبقي معه في الدكان حيث تناول الغداء فيه. ولما أقبل المساء قام الشاب فأغلق الدكان، ثم اصطحب ضيفه إلى داره الفخمة، حيث أعد وليمة كبيرة لإكرامه، جمعت كل ما لذ وطاب، من أنواع الطعام والشراب،

وبعد ذلك جلس يسامره ويرحب به، ثم سأله: هل تعرفون اللعب بالشطرنج في بلدكم؟

فقال له: نعم. وقد تعلمته على يد شيخ فارسي.

الفوز حليف إبراهيم

فلما سمع الشاب البغدادي ذلك، دعا إحدى جواريه وأمرها بإحضار الشطرنج، فأحضرته ووضعته بينهما. ولعبا عدة أدوار، كان الفوز فيها كلها لإبراهيم، فتعجب الشاب البغدادي من ذلك وقال له: هذه أول مرة أجد فيها من يغلبني في الشطرنج ! وفي الليلتين التاليتين، كان الفوز في اللعب أيضا لإبراهيم، فاشتد عجب الشاب البغدادي، وقال له: أريد أن تبقى عندي معززا مكرما، لكي ألاعبك كل ليلة، واعلم أن هذا يسرني كل السرور، والخير عندى كثير والحمد لله، وستجد مني كل إكرام. فقبل إبراهيم بن الخصيب شاكرا.

جراب الجواهر

وفي الليلة التالية كان الشاب البغدادي قد أمر بإعداد حجرة خاصة لضيفه، ونقل إليها جراب الجواهر الذي معه وهو لا يدري ما فيه. فلما فرغا من الطعام والشراب، وجلسا للعب الشطرنج، تفقد إبراهيم جرابه ولما لم يجده قال لنفسه: ماذا أصنع الآن وقد فقدت هذه الثروة الكبيرة وأنا غريب في هذه المدينة؟ لكنه كتم حزنه وهمه، وجلس يلاعب مضيفه الشاب، وفكره مشغول بفقد الجراب. وعلى هذا خرج من الدور الأول مغلوبا، ولازمه الفشل في الدورين التاليين أيضا. فتعجب الشاب البغدادي من ذلك، وقال له: مالي أراك مشغول البال؟

فقال له وهو يغالب الخجل: كان معي خاتم عزيز علي وضعته في الجراب الذي كان معي، وقد بحثت عن الجراب فلم أجده.

فدعا الشاب إحدى جواريه، وقال لها: هاتي جراب سيدك إبراهيم من الحجرة الخاصة التي أعددناها له. فمضت الجارية وأحضرت الجراب، فلما رآه إبراهيم واطمان إلى بقاء الجواهر فيه، زال عنه ما ساوره من الحزن والقلق، واستغفر الله من سوء ظنه بالشاب مضيفه، ثم أخرج خاتمين من الجواهر النادرة الثمينة، فلبس أحدهما، ووضع الآخر فى يد الشاب قائلا: هذه هدية بسيطة يسرني أن تقبلها مني.

حارة الكرخ

فقبل الشاب هديته ليسره، ثم أخذا في اللعب من جديد، فإذا بإبراهيم يغلبه في كل ما لعبا من أدوار. وتعجب الشاب البغدادي من ذلك كل العجب، وسأله عن السبب، فقال إبراهيم: أنت الآن بمثابة أخي وزيادة، ولن أخفي عليك شيئا من أمري. فقص عليه قصته من أولها إلى آخرها، وكيف جاء إلى بغداد من غير علم والده للبحث عن شاب في حارة الكرخ اسمه أبو القاسم الصيدلاني، ليقف منه على الفتاة صاحبة الصورة التي صنعها. فلما سمع الشاب البغدادي كلامه، ضحك وقال له: إني أنا أبو القاسم الصيدلاني، ثم قام إلى خزانة بجانبه ففتحها وأخرج منها عدة صور مثل تلك الصورة للفتاة نفسها، وقال له: إن لي مع هذه الفتاة قصة عجيبة، فهي ابنة عمي حاكم مدينة البصرة، واسمها جميلة بنت أبي الليث. وقد خطبتها لنفسي، وقبل عمي الخطبة، ولكنها رفضت وقالت له: «لا أريد الزواج إلا بمن يلاعبني الشطرنج عشرة أدوار، ويغلبني فيها كلها. وقد لاعبت ابن عمي فغلبني خمسة أدوار وغلبته خمسة أدوار... وعلى هذا لا أتزوجه أبدا». فلما عرفت برفضها، ضاقت الدنيا في وجهي، وتركت مدينة البصرة وجئت إلى هنا حيث فتحت لنفسي ذلك الدكان الذي رأيته، وصرت كبير التجار في حارة الكرخ كلها، ولكني بقيت مشغول القلب بحب جميلة بنت عمي، فصنعت لها هذه الصور، وجعلتها في كتب ألفتها عن غرامي وهيامي بها، ووزعت كثيرا من هذه الكتب والصور على مختلف البلاد. ولعلك قرأت الكتاب الذي وقع في يدك وجئت لخطبتها وملاعبتها بالشطرنج أملا في أن تغلبها وتتزوجها.

فقال له إبراهيم: والله يا أخي، أنا ما قرأت الكتاب ولا نظرت فيه إلى شيء غير الصورة، ولكنى أحببت صاحبتها بكل قلبي، ولم أعد أجد لذة للعيش إلا إن سعدت بلقاء هذه الفتاة. وإذا أردت أن تتم إكرامك لي، فدلني على تلك المدينة التي هي فيها، لكي أراها وأطفئ ما في قلبي من نار هواها، فقال له أبو القاسم: حبا وكرامة. ولكن بشرط ألا تحرمني من رؤية جميلة بنت عمي إذا أنت تزوجتها. فقال له إبراهيم: أعاهدك على ذلك.

الطريق إلى جميلة

وفي اليوم التالي، جهز أبو القاسم سفينة كبيرة، زودها بكل معدات السفر، وأركب فيها إبراهيم، وجعل في خدمته عشرة من المماليك والجواري، ثم ودعه معانقا إياه، سائلا له التوفيق في مهمته، وأوصاه بألا ينسى الشرط الذي اتفقا عليه. ولم تزل السفينة سائرة بإبراهيم ومن معه، إلى أن وصلت إلى البصرة فصعد منها إلى الشاطئ، وقصد إلى سوق الجواهر حيث باع بعض الجواهر التي معه بألف دينار أعطى نصفها لرئيس الملاحين في السفينة، وقال له: أنفق من هذا المال على نفسك ومن معك إلى أن أرجع إليكم هنا. فلم يملك رئيس الملاحين إلا قبول عطيته، وودعه هو ومن معه من الملاحين والمماليك والجواري، متمنين له عودا حميدا وحظا سعيدا، وسار إبراهيم وحده بعد ذلك إلى سوق البصرة، وسأل عن أكبر خان ينزل فيه التجار الأغراب، فدلوه على خان يقال له خان حمدان، واستأجر لنفسه أفخم حجرة فيه. وكانت أجرتها دينارا في الشهر، فدفع لصاحب الخان عشرة دنانير، وأعطى بواب الخان دينارين، ولكل واحد من الخدم دينارا كاملا. فعامله الجميع معاملة الملوك، وقال بعضهم لبعض: هذا هو تاجر، ولابد أنه أمير من أولاد الأمراء العظام ! وبعد أن دخل حجرته في الخان وبدل ملابسه، طلب من البواب أن يحضر له شيئا من الطعام والشراب، وأعطاه لذلك دينارا، فأحضر له البواب دجاجة مشوية ولحما مقليا وسمكا وخبزا وفاكهة وحلوى، وأنواعا من الورد والرياحين. وقال له: اشتريت ذلك بربع دينار، فقال له إبراهيم: خل الباقي لك. وهكذا صار كلما أرسل البواب ليشتري له شيئا، ينفحه بنصف دينار أو أكثر، حتى ملك قلبه بكثرة إحسانه.

إجلال وإخلاص

ثم أعطاه جوهرة ثمينة تساوي مئة دينار، وقال له: خذ هذه لزوجتك فأخذها الرجل وهو لا يصدق عينيه، ولما قدمها لزوجته وعرفت قيمتها كادت تجن من شدة الفرح، وقالت له: مثل هذا الأمير الكريم، ينبغي أن نخدمه بكل إجلال وإخلاص.

وفي اليوم التالي، صنعت زوجة البواب ألوانا من الطعام الجيد، وقالت لزوجها: احمله إلى ذلك الأمير، فلما حمله إليه وأخبره بأنه من صنع زوجته، شكره وأعطاه جوهرة أخرى مما معه، ثم أعطاه عشرة دنانير. وقال له: أريد أن تعد مجلسا عندك في دارك، وأن تحضر لي عودا لأعزف لك ولزوجتك عليه وأغني لكما بعض ما أعرف من ألحان بلدنا. فقال له البواب: حبا وكرامة. ورجع إلى زوجته فأعطاها الجوهرة والدنانير، وأبلغها رغبة الأمير إبراهيم. ففرحت بذلك غاية الفرح، وسارعت إلى تنفيذ تلك الرغبة.

لحن جميل

ولما حضر إبراهيم إلى المجلس الذي أعدته هي وزوجها في دارهما، وقفا في خدمته، فقال لهما: إذا شئتما إكرامي حقا فاجلسا معي لنأكل ونشرب معا، فقالا سمعا وطاعة. وجلسا معه إلى أن انتهوا من تناول الطعام، ثم أخذ العود فأصلح أوتاره وعزف عليه بلحن جميل وغنى هذين البيتين:

ياصاحبي لو بذلت الروح مجتهدا

وجملة المال والدنيا وما فيها

بل جنة الخلد لو أني ظفرت بها

لبعتها بسماع اللفظ مِن فيها

فطرب البواب وزوجته طربا شديدا، أما إبراهيم فإنه كاد يغمى عليه من شدة التأثر، إذ تذكر أهله وبلاده، وكيف تغرب من أجل عشقه لفتاة لم ير إلا صورتها، ثم اشتد به الوجد والولع، ففاضت عيناه بالدموع.

فقالت له زوجة البواب: لا بأس عليك يا سيدي، إن كان قلبك قد تعلق بحب أي فتاة في هذه المدينة، فأخبرني باسمها، وثق بأنها سرعان ما تكون جارية لك، فو الله ما في الدنيا كلها من يضارعك من الجمال والظرف والكمال. فقال لها إبراهيم: اعلمي أن والدي هو الخصيب والي مصر، وقد خرجت منها بغير علمه لأني رأيت صورة جميلة بنت أبي الليث، فسكن حبها قلبي، وكاد يذهب بلبي، ولا حياة لي إلا إذا تزوجتها وسعدت بالعيش معها. فلما سمع البواب وزوجته كلام إبراهيم، تعجبا غاية العجب، ووقعا في حيرة ليس عليها مزيد. ثم أطرقت زوجة البواب مفكرة، ورفعت رأسها بعد قليل وقالت لإبراهيم بن الخصيب: اطمئن أيها الأمير، إن هنا خياطا أحدب بيني وبينه قرابة، وهو الذي يصنع لها ملابسها، ويرسلها إليها بواسطة شقيقه الذي يعمل في بستان لوالدها حاكم المدينة. فلما التقى الخياط وسمع منه حكايته، قال له اتبعني ولكن تحمل مخاطر الطريق. فلما سمع إبراهيم كلامه، شكره على نصيحته، وأعطاه جوهرة كبيرة مما معه في الجراب، ومعها ألف دينار، وقال له: لا تخش علي من مخاطر الطريق، لأن مخاطر الفراق والحرمان أشد على قلبي، والقتل عندي أهون كثيرا من بقائي على الحال التي أنا فيها. فقال له الخياط: ما دام الأمر كذلك، ففي غد إن شاء الله أجهز لك زورقاً يحملك إلى شاطئ ذلك البستان، وأعطيك رسالة إلى أخي ليساعدك على أن ترى جميلة ولو من بعيد، ثم يفعل الله ما يريد! فكرر شكره له، واتفق معه على اللقاء بعد صلاة المغرب في اليوم التالي. وفي الموعد المحدد، وجد إبراهيم صاحبه الخياط الأحدب في انتظاره بباب المسجد، ومضى به إلى شاطئ النهر حيث أركبه في زورق صغير ليس به سوى ملاح واحد من غلمانه، وأوصى الغلام بأن يوصله إلى شاطئ البستان الذي فيه أخوه، ثم يرجع وحده بالزورق من غير أن يعلم أحد بذهابه أو أيابه. فقال الغلام: سمعا وطاعة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

في البستان

وفي الليلة الثانية والعشرين بعد الستمئة قالت شهرذاد: إنه بعد لقاء الخياط الذي يحيك الملابس لجميلة بابن الخصيب والمضي به إلى شاطئ النهر حيث أركبه في زورق صغير ليس به سوى ملاح واحد من غلمانه، وأوصى الغلام بأن يوصله إلى شاطئ البستان الذي فيه أخوه، ثم يرجع وحده بالزورق من غير أن يعلم أحد بذهابه أو إيابه. فقال الغلام: سمعاً وطاعة ووصل الزورق إلى شاطئ البستان بعد صلاة العشاء بقليل. فصعد إبراهيم مع غلام الخياط إليه، ومشيا في حذر متسترين بالظلام، إلى أن بلغا مدخل البستان، فوجدا البواب شقيق الخياط، وهو أحدب مثله، جالساً على سرير من العاج في صدر الدهليز، وعليه ثياب مطرزة بالذهب، وفي يده دبوس كبير مقبضه من الذهب المطعم بالجواهر. وأمامه مائدة حافلة بالطعام والشراب، والشموع موقدة من حوله. وليس معه أحد سواه. وأشار الغلام على إبراهيم بأن يقف صامتا، ثم أطلق من فمه صفيرا خافتا بنغمات خاصة، فلما سمع البواب الأحدب ذلك الصفير، نهض من مكانه، وأسرع نحو مدخل البستان قائلاً: هل جئت يا ميمون؟ وكان هذا هو اسم غلام الخياط شقيقه. فأجابه قائلاً: نعم ياسيدي، ومعي رسول إليك من شقيقك يحمل رسالة منه.

باب من الذهب والزمرد الأخضر

تعجب البواب من حديث الغلام، ونظر إليهما بحذر شديد، ثم تناول الرسالة من يد إبراهيم، وقال لهما: قفا حيث أنتما ولا تأتيا حركة حتى أرجع إليكما، وإلا قتلتكما بهذا الدبوس الذي معي. فتملكهما الخوف، ووقفا ساكتين، بينما رجع هو إلى مجلسه وفض الرسالة وقرأها في ضوء الشموع، فلما تحقق أنها من شقيقه الخياط، ووقف على ما فيها، سار إلى مدخل البستان ثانية وأمر الغلام بالانصراف والرجوع من حيث أتى، ثم أخذ بيد إبراهيم ومشى به حتى أجلسه بجانبه على سريره، وقال له: والله لولا أن قلبي أحبك منذ رأيتك ما سمحت لك بأن تخطو خطوة واحدة داخل هذا البستان. ثم ألح عليه في أن يتناول معه الطعام والشراب، فلما انتهيا من ذلك، نهض واصطحبه إلى داخل البستان، ولم يزل يسير به من مكان إلى مكان، بين أشجار مثمرة الأغصان، وأزهار تنعش برائحتها الأبدان والأذهان، وأطيار تسبح للرحمن بأبدع الألحان، إلى أن وقف به أمام قبة عظيمة من المرمر، في أسفلها باب من الذهب الأحمر والأصفر والزمرد الأخضر. ثم أخرج من جيبه مفتاحا ووضعه في ثقب بالباب ففتحه به، وكان إبراهيم ممسكاً شمعة موقدة أعطاها له، فلما دخلا أخذها منه وأوقد منها عدة شموع كبيرة كانت هناك، فرأى إبراهيم في ضوئها منظرا بديعا لمجلس لطيف لم ير مثله من قبل، ثم قال له البواب: هذا هو المجلس الذي تأتي إليه سيدتي جميلة مع جواريها كل أربعين يوما، لتقضي ساعات في الأنس والانشراح. فامكث هنا إلى الصباح، ثم أحضر إليك وأتفق معك على ما تفعل. وتركه بعد ذلك وانصرف إلى مجلسه عند مدخل البستان، بعد أن أغلق باب القبة كما كان. فجلس إبراهيم يتأمل فيما حوله من مناظر ساحرة، ثم قام فأطفأ الشموع ونام، وسعد في منامه بأحسن الأحلام ! وأدرك شهريار الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى اللقاء في حلقة الغد