لم يرتدع سالم من عقوبة السجن، ورغم انتمائه إلى عائلة مشهود لها بالفضائل، لكنه حلق وحيداً خارج السرب، وبات سلوكه العنيف مثار دهشة الجميع منذ طفولته، وتمرد على المدرسة، وتكرّر رسوبه في اختبار الثانوية العامة، فألحقه والده بالعمل معه في محل البقالة، لكنه تعامل مع الزبائن بجفاء، ودخل معهم في مشاجرات كثيرة، وأصبح مصدر الرزق الوحيد لأسرته مهدَّداً بالإفلاس، وكف أهالي القرية عن التعامل مع هذا الشاب غريب الأطوار، وقد تحوَّل إلى مصدر إزعاج لكل من يقترب منه، ولا يستطيع أحد أن يروض غضبه وثورته، بينما تضاعفت أحزان والده، وأقعده المرض عن العمل، وحاول تقويم ابنه الأكبر، لكن من دون فائدة.

تملكت سالم نزعات الشر، ولم يَسلم شقيقه الأصغر "حسن" من مضايقاته، وكان يعايره دائماً أنه السبب في وفاة أمهما أثناء ولادته، ويسخر من تفوقه في الدراسة، ورغبته أن يلتحق بالجامعة، وكان يقول لوالده: "كفاك تدليلاً لقاتل أمي، ودعه يعمل معي في المحل، بدلاً من ذهابه إلى المدرسة، فهو ليس أفضل مني، حتى أتحمل المسؤولية وحدي"، وحينها يستشيط الأب المقعد غضباً، ويطرده من الغرفة، بينما الابن العاق ترتسم على وجهه ابتسامة سخرية، ويغادر المنزل من دون أن يكترث بما يسببه لوالده من ضيق وحزن.

Ad

طوق نجاة

بحث حسن عن طوق نجاة، ولم يجد سوى البحث عن عمل، حتى يستطيع مواصلة الدراسة، ورعاية والده المريض، لاسيما أن سالم يستأثر لنفسه بنصيب أكبر من عائد المحل، ويعطي والده مبلغاً ضئيلاً لا يكفي نفقات علاجه، وأصابته الدهشة حين كف شقيقه الأصغر عن طلب النقود، وعرف أنه يتأخر في العودة إلى المنزل، لأنه يعمل في إحدى الشركات الخاصة مندوب مبيعات، وحينها كف عن السخرية منه، وأدرك أنه لم يعد مسؤولاً عن نفقته، وقال له: "طالما وجدت عملاً، فعليك أن تصرف على نفسك وعلى أبيك، فالمحل يخسر وأنا أفكر في تأجيره"، وهنا ثار حسن غضباً، وهدده بأنه سيبلغ كبار العائلة، ليضعوا حداً لتصرفاته الطائشة، فقال له سالم في برود: "أتحداك أن تفعل ذلك، أم تريد أن تقتل أباك مثلما قتلت أمك؟"

لم يكن سالم جاداً في تهديده، لأنه لا يستطيع التصرف من دون توقيع والده، واعتاد أن يبقى في المحل، حتى يجمع قدراً من المال، ليشتري المخدرات التي أدمن عليها، وحينها يتوجه لمقابلة أصدقاء السوء، والسهر معهم حتى ساعة متأخرة من الليل، ويستيقظ في منتصف النهار، من دون أن يهتم بالسؤال عن أبيه المريض، ويتركه بمفرده، بينما حسن يسارع الوقت للعودة إلى المنزل، ومعه الطعام والدواء، ويلبي طلبات والده، ثم يجلس لمراجعة دروسه، ويخلد إلى النوم بعد إرهاق يوم شاق.

وبمرور الوقت ساءت حالة الأب، وتمكن منه المرض، واجتمع حوله أفراد العائلة، ودخل في غيبوبة طويلة، وانقطع حسن عن العمل لرعايته في أيامه الأخيرة، وبعد وفاة الأب أدرك الشقيق الأصغر صعوبة العيش في المنزل مع سالم، فترك له كل شيء، ووقع على ورقة بتنازله عن ميراثه، واستقر به الحال في القاهرة، ولم يعد إلى البلدة مرة أخرى.

وحانت الفرصة لسالم، ليتصرف في ممتلكات والده، فباع المحل لأحد أبناء عمومته، واضطر الأخير لشرائه كي لا يحصل عليه شخص غريب، وأبقى الابن العاق على المنزل المتواضع، مكاناً يأويه بدلاً من البحث عن مسكن آخر، وأنفق ما معه من مال في شراء المخدرات، ودعوة أصدقاء السوء للسهر كل ليلة في منزل والده، من دون مراعاة لمشاعر أسرته، وقد ذهبت نصائحهم له أدراج الرياح.

سحابة عابرة

غابت أخبار حسن عن شقيقه الأكبر، ولم يفكر الأخير في السؤال عنه، لكنه علم أنه تخرج في الجامعة، ويعمل طبيباً في إحدى المستشفيات، وبدت مشاعره متضاربة، وفكر أن يذهب لزيارته في القاهرة، لكنه تذكر أنه كان دائم التأنيب له، ويتهمه أنه المسؤول عن وفاة والدتهما أثناء ولادته، وهذا سيجعله في موقف صعب، وقد تشتعل الخلافات بينهما من جديد، وبدوره سيتهمه أنه أهمل رعاية والده، ودفعته أنانيته إلى الإنفاق على ملذاته، وتجرد من أي شعور بالرحمة تجاه شقيقه الأصغر، وتركه يمضي صفر اليدين، من دون وازع من ضمير أو شفقة.

وفي المقابل، ارتضى حسن حياته الجديدة، وبدت أيامه الماضية سحابة حزن عابرة، واستطاع أن يحقق أحلامه، ويصبح طبيباً ناجحاً، لكن شيئاً ما يربطه بذكريات دفينة، وكلما اختلى بنفسه، فكر في شقيقه الأكبر، ورغم كل الإساءات التي تلقاها منه، كان يأمل أن يتغير سلوكه العدواني، وانغماسه في تعاطي المخدرات، وأن يصبح رجلاً صالحاً يفتخر به، ويقول لأولاده: "هذا عمكم وشقيقي الأكبر الذي أحبه وأحترمه" ويفيق من خواطره، من دون أن يدري شيئاً عن سالم، وهل لا يزال حياً أم جرفته أفعاله النكراء إلى الهاوية؟

وفي ذلك الوقت، قابل حسن أحد أصدقائه مصادفة، وأخبره أن سالم زُج به إلى السجن، إثر القبض عليه بتهمة تعاطي المخدرات، ونصحه صديقه بزيارة أخيه، وأن مهما كانت أسباب القطيعة بينهما، فإنهما شقيقان وتجري في عروقهما دماء واحدة، وربما زيارته تمحو خلافاتهما القديمة، ويكفي أنه يدفع ثمن أخطائه، ويقضي فترة عقوبته خلف القضبان، ويحتاج إلى من يسأل عنه، ويمنحه فرصة جديدة، ليكون شخصاً صالحاً، وهذه أفضل طريقة لانتشاله من بؤر السموم والمخدرات.

ترك حسن صديقه، وتملكه شعور بالشفقة والحزن على أخيه، وظل حائراً بين زيارته في السجن، أو الإعراض عن الفكرة، وكأنه لا يعلم عنه شيئاً، وفي اليوم التالي سافر إلى القرية، وقابل بعض أفراد العائلة، وعرف منهم أن الشرطة داهمت المنزل، وألقت القبض على أخيه متلبساً بتعاطي المخدرات، وضبطت معه كميات كبيرة من السموم، لكنه أنكر أنها تخصه، وزج به إلى السجن، ونصحه أحد أبناء عمومته قائلاً: "لقد ذهبنا لزيارته في السجن، وقابلنا ببرود شديد، واتهمنا أننا أخبرنا عنه الشرطة، وقال إنه لا يريد من أحد زيارته، وهددنا أنه سينتقم من المتسبب في دخوله السجن، وحاولنا إقناعه بأننا لا ذنب لنا في ذلك، لكنه ابتسم في سخرية، وأشاح بيده وانصرف".

عاد الشقيق الأصغر إلى القاهرة، وقرر زيارة سالم في السجن، مهما كانت نتيجة هذا اللقاء، وفوجئ حسن أن شقيقه لا يريد مقابلته، وقال للمسؤولين إنه ليس له أشقاء، وحينها أدرك حسن أنه لا أمل في شفاء أخيه من الهواجس، وأيقن أن تعاطيه المخدرات أثر في خلاياه العصبية، وبات شخصاً مختلاً لا يدرك ما يفعله، ويظن أن الآخرين يتآمرون عليه، ولا أمل من شفائه، وربما يخرج من السجن أكثر شراسة وعدوانية، ويرتد مرة أخرى إلى حياة اللهو والسموم.

لم يفكر حسن في زيارة أخيه مرة ثانية، وقرر مقاطعته طوال العمر، وإذا حاول التعرض له، فسيبلغ الشرطة فوراً، واعتبر أنه وُلد وحيداً في هذا العالم، وتعجب من حال هذا الشقيق الذي فقد بصيرته، وجبلت نفسه على الخصومة مع أقرب إنسان إليه، وقد تحول إلى آلة شر تسير على قدمين، وليست فترة السجن سوى استراحة قصيرة، وسيعود إلى سابق عهده، وتلك المرة سيكون السجن جاهزاً لاستقباله من جديد.

انتهت فترة عقوبة سالم، وقال له المسؤولون، إن عليه أن يسير في الطريق المستقيم، ويرتدع من فترة السجن، وأن يبحث لنفسه عن عمل شريف، وأن الفرصة لا تزال سانحة أمامه، وحينها هز رأسه بتقبل نصائحهم، لكنه بيَّت النية على الانتقام، ولعب الشيطان بعقله المريض، وقرر العودة إلى القرية، والتفكير في خطة لابتزاز أبناء عمومته، وارتسمت على وجهة ابتسامة ساخرة، وقال لنفسه: "سأجعلهم يندمون لأنهم تدخلوا في حياتي الخاصة، ولن أتركهم قبل أن يشهروا إفلاسهم واحداً بعد الآخر، وبعدها يجيء دور حسن ليدفع الثمن هو الآخر".

دائرة الانتقام

عندما عاد سالم إلى القرية، توجه إلى أحد أبناء عمومته، وطلب منه مبلغاً من المال، وكرر الأمر مع ابن عمه الآخر، وتعلل بأنه خارج لتوه من السجن، وعلى أقاربه أن يساعدوه، حتى يبدأ حياة جديدة، وفي الطريق كان يفكر ساخراً في نصائحهما له، وأن عليه أن يفكر في عمل شريف، ولا يعود إلى سيرته الأولى مع المخدرات، وحينها قال لهما عبارة غامضة: "البركة فيكم لأنكما ستدلاني على الطريق الصحيح"، وأدركا أنه لا ينوي العدول عن الانتقام منهما، رغم أنهما لم يبلغا عنه الشرطة.

وذات يوم تلقت أجهزة الأمن بلاغاً يفيد بمقتل صاحب محل بقالة يُدعى "عزت"، وابن عم سالم "كامل" بطلقات نارية، وبعد معاينة جثتي المجني عليهما، وعقب جمع المعلومات الأولية تشكل فريق بحث جنائي، لكشف ملابسات الواقعة، وأسفرت جهود البحث والتحريات عن التقاط الخيط الأول لهذه الجريمة البشعة، وتبين وجود خلافات نشبت بين أبناء عمومة لوجود خلافات على مبالغ مالية بينهم، وأن وراء ارتكاب الجريمة المتهم "سالم" وأنه نفذ جريمته باستخدام سلاح ناري "طبنجة" وفر هارباً.

وأثبتت التحريات أن المتهم عاطل عن العمل، سبق اتهامه في جريمة تعاطي وحيازة مخدرات، وحكم عليه بالسجن، وقضى العقوبة المقررة له، ومعروف بسلوكه العدواني، وتبرأ شقيقه الأصغر منه، وعاد إلى قريته ليبتز أبناء عمومته، وكان دائم الشجار معهم وجيرانه في المنطقة، بغرض الحصول على مبالغ مالية منهم بأسلوب "البلطجة" والإكراه، وأنه اعتاد على ذلك، ولم يستطع أحد مواجهته، وكانوا يعطونه المال درءاً لشره وهمجيته.

وأوضحت التحريات أن أقارب المتهم رفضوا منحه مبالغ مالية، فاستشاط غضباً وأحضر سلاحاً نارياً "طبنجة"، وتربص لهما أثناء جلوسهما بجوار أحد المحال التجارية، وأطلق عليهما الرصاص، فأرداهما قتيلين في الحال وفر هارباً من دون أن يُعثر له على أثر في محل إقامته، وبسؤال شقيقه الأصغر حسن، نفى الأخير أية صلة تربطه بشقيقه الهارب.

وكثف فريق البحث الجنائي جهوده لتحديد مكان هروب المتهم، والمنطقة التي يختبئ فيها بعد ارتكاب الواقعة، فتبين أنه يقطن في شقة أحد أصدقائه في منطقة الهرم بمحافظة الجيزة، وتحركت قوة من الأمن، وتمكنت من ضبط المتهم، وبمواجهته بما أسفرت عنه التحريات، اعترف بارتكاب واقعة القتل، بسبب رفض المجني عليهما سداد قيمة "الإتاوة" المفروضة عليهما، وتحرر المحضر اللازم، وبالعرض على النيابة العامة، أقر المتهم بجريمته، وتم حبسه على ذمة التحقيق، تمهيداً لمثوله أمام المحكمة، لينال الجزاء العادل لما اقترفه من جريمة نكراء، وإقدامه على قتل أبناء عمومته بطلقات نارية، من دون وازع من رحمة أو ضمير، وأغلقت عليه دائرة الانتقام.