ترددت أصداء جرائم العصابة الخفية في الشارع المصري، عندما تكررت حوادث سرقة المنازل الفاخرة في أحياء العاصمة المصرية، واتسعت دائرة السطو إلى محافظات أخرى، وأدركت أجهزة الأمن أنها في مواجهة تشكيل عصابي غير عادي، وفي تلك الفترة سقط في قبضة الشرطة العديد من لصوص المساكن، ومعظمهم من المسجلين خطر، ولهم صحيفة سوابق جنائية، وتتوافر المعلومات الكافية عنهم، وسبقت إدانتهم في حوادث مماثلة، وزُج بهم في السجن سنوات، وعادوا لاستئناف تشاطهم الإجرامي من جديد.

وتبين أن هؤلاء ليست لهم علاقة بالعصابة الخفية، ويفتقرون إلى الاحترافية في تنفيذ جرائمهم، مما سهَّل القبض عليهم، وأسفرت التحقيقات عن أنهم يمارسون نشاطهم في حيز مكاني محدود، بينما تتسع دائرة الحركة للتشكيل العصابي الآخر، من دون توافر معلومات كافية عن تحركاتهم، ما جعل مهمة القبض عليهم أكثر صعوبة، ولكنهم تركوا ثغرة وحيدة، كشفت لغز هذه الجرائم المتكررة، وبدّدت أوهام من يظنون أن هناك جريمة كاملة، ومهما بلغ ذكاء الجناة، فإنهم لا محالة سيسقطون في قبضة العدالة.

Ad

وفي ذلك الوقت، تزايد إقبال أصحاب المحال والعقارات على استخدام كاميرات المراقبة، ما ساهم في كشف جرائم السطو، وباتت اللقطات المصورة دليلاً دامغاً ضد الجناة، وكانت إحدى الوسائل المهمة في تحديد هوية أفراد العصابة الخفية، وسقوطهم واحداً تلو الآخر، وقد اعتادوا بعد تنفيذ جرائمهم الاختفاء من مسرح الجريمة، من دون أن يتركوا بصمة واحدة، ويلتقون في سرية تامة، ليخططوا لجريمة جديدة، ولا يقيمون في مسكن واحد، ويتواصلون عبر دائرة هاتفية مغلقة.

قضية القرن

أصداء هذه الواقعة التي عرفت إعلامياً بـ"قضية القرن"، بدأت بتحرك الأجهزة الأمنية، لكشف لغز 33 بلاغ سرقة من ضحايا عصابة المجوهرات، واستغرقت المطاردة 21 يوماً، عكفت خلالها شرطة مباحث القاهرة على جمع المعلومات والشواهد والاستعانة بالتقنيات الحديثة، للاستدلال عن أفراد أخطر تشكيل عصابي شهدته البلاد خلال السنوات الأخيرة، وطريقة ارتكابهم سرقة المساكن، وحصيلة مسروقاتهم.

نفَّذ التشكيل العصابي جرائمه في مصر لمدة ثمانية أشهر في شرق القاهرة بمناطق مثل النزهة، والتجمع، ومدينة نصر، وتركز نشاطه في السطو على "فيلات" الأثرياء ورجال الأعمال، ونجح أفراد العصابة في جمع مبالغ ومشغولات ذهبية تخطت قيمتها 100 مليون جنيه مصري، وفي كل مرة يلوذون بالهرب من مسرح الجريمة، ولا يتركون خلفهم أي أثر يدل عليهم.

واكتنف الغموض جرائم العصابة الخفية، بينما رصدت أجهزة البحث الجنائي في مديرية أمن القاهرة، تعدد بلاغات سرقة المساكن في دوائر أقسام شرطة "التجمع الأول، التجمع الخامس، النزهة، وأول مدينة نصر" بأسلوبي التسلق وكسر الباب، وتمكن فريق بحث جنائي من فحص وتحليل تلك الجرائم وأسلوب ارتكابها من خلال الاستعانة بالتقنيات الحديثة، حتى توصل إلى ضبط تشكيل عصابي مكون من خمسة أشخاص يقيمون في منطقة "العبور" بمحافظة القليوبية (شمال القاهرة) وقد تورطوا في حوادث السطو على منازل الأثرياء.

وتركت أصداء القبض على المتهمين ارتياحاً كبيراً في الشارع المصري، وإحراز ضربة أمنية جديدة، وصفتها أجهزة الأمن التابعة لوزارة الداخلية وقتذاك بأنها الأكبر والأذكى في تاريخ الوزارة من حيث حصيلة المضبوطات والسرقات، وطريقة ارتكاب وقائع سرقة المساكن، وتبين أن أفراد العصابة من بلد عربي، ودخلوا إلى مصر عام 2007 بطريقة غير مشروعة، ولجأوا إلى خطة محكمة للسطو على ضحاياهم، وجمع المعلومات الكافية عن تحركاتهم، بما يماثل أسلوب الأجهزة الأمنية، واستخدموا للتواصل فيما بينهم دوائر هاتفية مغلقة، للحفاظ على سرية عمليات السرقة، لكنهم لم يدركوا أن خيطاً واحداً قد يؤدي إلى سقوطهم في قبضة الشرطة.

وفي ذلك الوقت، قالت مصادر أمنية، إن سبب نجاح ضبط العصابة من دون إفلات أي من عناصرها رغم وجودهم في أكثر من مكان يرجع إلى عامل سرية المأمورية والاعتماد فيها على ضباط ذوي كفاءة عالية ممن يتولون مناصب رؤساء ومفتشي مباحث فقط، من دون اشتراك أي أفراد في عملية المداهمة.

وكانت الدائرة الهاتفية المغلقة التي استخدمها المتهمون الخمسة، ودهاء زعيم العصابة "محمود"، صعَّب من عملية فك لغز جرائم التشكيل العصابي، ولكن "باركود" حذاء باهظ الثمن اشتراه أحد أفراد العصابة من محل في منطقة مصر الجديدة (شرق القاهرة)، كشف الغموض، وقاد أجهزة الأمن إلى ضبطهم في منطقة "العبور"، بعدما نسي "كيس بلاستيك" يحمل اسم المحل الذي اشترى منه الحذاء، داخل فيلا أحد الضحايا ليلة رأس السنة.

عصابة دولية

وقال رئيس مباحث قطاع شرق القاهرة في ذلك الوقت، إن الفحص الجنائي لأفراد العصابة أثبت أنهم مسجلون خطر في الأردن، وأنهم تابعون لعصابة دولية، لافتاً إلى أنهم ارتكبوا عدة جرائم سرقة هناك، ثم في الكويت ومنها إلى مصر، وأن المتهمين استغلوا عدم تأمين الوحدات السكنية التي جرى سرقتها، وكانوا يرصدون هدفهم لمدة أسبوع للوقوف على إمكانية اقتحامه من دون وجود مالكيه وطاقم الحراسة، مشدداً على أن عملية الرصد كانت دقيقة، بحيث يعرفون موعد دخول وخروج السكان، وكمية المدخرات الموجودة في الخزائن بشكل تقريبي.

كما جاء في بيان أصدرته وزارة الداخلية في ذلك الوقت، أن "التشكيل العصابي المكوَّن من خمسة متهمين ارتكب 33 حادثة سرقة في دوائر أقسام مختلفة في محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية، وأن المسروقات شملت مبالغ مالية من متحصلات حوادث السرقات بلغت 4 ملايين و458 ألفاً و455 جنيهاً مصرياً، إضافة إلى مليون و43 ألفاً و95 يورو، ومليون و503 آلاف و819 دولاراً، و5860 جنيهاً إسترلينياً، و5 ملايين دينار عراقي، و500 يوان صيني، و140 ورقة "عملات نقدية ورقية تذكارية مختلفة".

وتضمنت المضبوطات أيضاً مشغولات ذهبية وماسية متحصل عليها من حوادث السرقات بلغت نحو 21 كيلوغراماً من المشغولات والسبائك والعملات الذهبية والماس متنوعة الأشكال والأحجام، فضلاً عن أسلحة نارية متحصل عليها من حوادث السرقة عبارة عن طبنجة عيار 9 ملم، تحصلوا عليها من أحد المواطنين في دائرة قسم شرطة التجمع الخامس، وأسلحة نارية وصوتية مشتراة من حصيلة السرقات ومستخدمة في ارتكاب الحوادث، عبارة عن طبنجة بحوزة المتهم الأول، اعترف باستخدامها في ارتكاب الحوادث وجرى ضبطه وبحوزته طبنجة و4 طبنجات صوت و7 طلقات.

كاميرات المراقبة

وقبل إسدال الستار على قضية عصابة الخمسة، عرض إحدى القنوات الفضائية المصرية مقطع فيديو من إحدى كاميرات المراقبة، يرصد حادث سرقة للتشكيل العصابي الذي تم إلقاء القبض على أفراده بعد سرقتهم 33 فيلا، وأظهر الفيديو محاولة عدد من الأشخاص سرقة "فيلا" في منطقة شرق القاهرة وهروبهم بعد أن أطلقوا الرصاص على المسؤول عن أمن الفيلا، وقتلوا كلب الحراسة، وفروا هاربين.

وتبين أن العصابة قفزت من أعلى سور الفيلا، لتنفيذ مخطط السرقة، لكنهم فوجئوا بحارسها داخل السور، وكاد أن يمسك بأحدهم لولا أطلق الرصاص صوبه، وأفلت منه، وفشلت عملية السرقة التي ظلوا يخططون لها طيلة سبعة أيام، وقت حصول الحارس على إجازة، لكنه عاد ليلة التنفيذ مما أحبط مخطط السرقة.

ودلت التحريات التي جمعتها فرق البحث خلال 21 يوماً على أن أفراد العصابة الخمسة مطلوبون لدى السلطات الأردنية في قضايا جنائية، وأنهم بدأوا تنفيذ عملياتهم داخل مصر بعد رصد ومراقبة وجمع معلومات عن الأماكن الراقية، واختاروا ضحاياهم من رجال الأعمال المصريين بدقة بالغة، وراقبوا مواعيد وجودهم وانصرافهم عن منازلهم.

وكشف مصدر أمني أن أفراد العصابة فور وصولهم إلى البلاد بتأشيرات سياحية انتهت منذ فترة، كانوا يتواصلون فيما بينهم عن طريق دائرة هاتفية مغلقة، لتضليل الشرطة والهروب من عمليات التتبع والرصد، وثبتوا برنامجاً تقنياً للتواصل فيما بينهم واشتروا خمسة خطوط هواتف محمولة غير مسجلة البيانات، وكانوا يجرون مكالمات من هواتف ليست حديثة لصعوبة مراقبتها ورصدها.

وأشار المصدر أيضاً إلى أن المتهمين كانوا على درجة كبيرة من الذكاء والاحترافية، مكنتهم من تضليل الشرطة طوال سبعة أشهر، لعدة أسباب أبرزها تنوع الأماكن التي يستهدفون سرقتها، ودرايتهم بالتقنيات الحديثة، واستخدامهم سيارات مثبتة عليها لوحات معدنية مسروقة، وقال رئيس مباحث قطاع شرق القاهرة وقتذاك، إن أكثر من فريق بحث شارك في تحديد هوية التشكيل العصابي المتهم بسرقة 33 فيلا، مشيراً إلى أن المتهمين غير مسجلين وأن بينهم مصريون وعرب.

وبحسب تصريحات تلفزيونية أدلى بها رئيس مباحث قطاع شرق القاهرة وقذاك فقد تبين لأجهزة الأمن أن التشكيل العصابي كان يقوم برصد دقيق للفيلات التي يمتلكها أغنياء ورجال أعمال في القاهرة الجديدة ومصر الجديدة والشيخ زايد لسرقتها من دون ترك آثار، وتمكنوا من سرقة 100 مليون جنيه و21 كيلوغراماً من الذهب على مدار سبعة أشهر.

وأكد رئيس المباحث أن التشكيل العصابي الدولي الذي جرى ضبطه متخصص في سرقة المساكن، لافتاً إلى أن المتهمين كانوا يقومون في بعض الأحيان بإطلاق طلقات نارية لإرهاب أصحاب الفيلات والحراسة للسرقة من دون إيذاء أحد، وأشار إلى إطلاق القيادات الأمنية على هذه القضية مسمى "قضية القرن"، نظراً إلى ضخامة المسروقات واشتراك ما يقرب من 30 ضابطاً في ثلاثة فرق بحث لأجل كشف هوية المتهمين وغموض الحادث.

اعترافات المتهمين

وأدلى المتهمون باعترافات مسجلة بالصوت والصورة، وأقروا بجرائمهم في تحقيقات الشرطة، وأنهم نفذوا حوادث السطو بتقنية عالية، وظنوا أنهم سيفلتون من العدالة، واتخذوا تدابير متطورة لارتكاب جرائهم، وبعد نجاح كل عملية، يخططون لجريمة أخرى، حتى تركوا خيطاً واحدا لاكتشاف هويتهم، وقبض عليهم واحداً بعد آخر من أماكن مختلفة.

وبعد انتهاء التحقيقات المبدئية، جرى تحويل المتهمين إلى النيابة العامة لاتخاذ الإجراءات القانونية، وأقيم معرض بالمسروقات في قسم شرطة مدينة نصر، وإخطار الضحايا ممن أبلغوا بتعرضهم لحوادث السرقة، وكانت حصيلة مسروقات العصابة التي جرى ضبطها تعد الأكبر في تاريخ وزارة الداخلية المصرية.

ومن جهة أخرى، قامت نيابة مدينة نصر بإجراء تحقيقات موسعة مع التشكيل العصابي، ووجهت لهم تهمة ارتكاب عدة وقائع سرقة مساكن في دوائر "التجمع الأول، والتجمع الخامس، والنزهة، ومدينة نصر أول" بحصيلة مسروقات تبلغ 100 مليون جنيه، كما تم استدعاء عدد من المجني عليهم لسماع أقوالهم في الواقعة والتعرف على المسروقات، وطلبت النيابة تحريات المباحث الجنائية حول الواقعة، لبيان اشتراك متهمين آخرين في الواقعة من عدمه.

وتوافد عدد من ضحايا عصابة الـ100 مليون جنيه، للتعرف على المسروقات، واسترداد مقتنياتهم من سراي نيابة مدينة نصر، وقام فريق من النيابة بمطابقة المسروقات التي وردت في المحاضر التي تقدم بها الضحايا وقت ارتكاب حوادث السطو، والمضبوطات التي نجحت الشرطة في استعادتها، وأثنى الضحايا على جهود رجال المباحث للإيقاع بتلك العصابة، وقالوا إن جهاز الشرطة المصرية يؤكد دوما على شعار "الشرطة في خدمة الشعب".