عندما خرجت أغنية «أيظن»، كلمات نزار قباني وألحان محمد عبدالوهاب كان قباني في الصين، وظل يتلقى التهاني من دون أن يسمع الأغنية، فكتب إلى نجاة رسالة عتاب، وبعد شهر تقريباً يأتي لنزار الملحق العسكري المصري في بكين ليسلمه شريط نجاة، فيدعو زملاءه إلى حفل في السفارة لسماع الأغنية، ثم يتضح أن سرعة تسجيل الشريط تختلف عن سرعة جهاز الاستماع، فيلجأ إلى استوديوهات إذاعة بكين ليستمع إلى قصيدته لأول مرة بعد شهرين من إذاعتها في القاهرة!

وفي كتابها «نجاة الصغيرة» أضاءت الكاتبة رحاب خالد أهم المحطات في مسيرة نجاة، بقولها: أرادت نجاة أن تحافظ على جمهورها فترة أطول على خشبة المسرح، وتحول انتباهها إلى شعراء مثل نزار قباني، صاحب الأنماط الشعرية الكلاسيكية التي تجمع بين البساطة والعمق في استكشاف مواضيع الحب واستكناه مشاعر المرأة، وتغنت بثلاث من قصائده ولحنها الموسيقار محمد عبدالوهاب.

Ad

وكانت هذه الأغاني طويلة المدة ناجحة جداً، وزادت من شعبيتها على وجه السرعة حتى اقتربت من شعبية أم كلثوم، وكان تدريبها دقيقاً، فكانت تخضع لبروفات مطولة في استوديوهات التسجيل، ما جعل أداءها الدؤوب على المسرح مميزاً، وكان لقاؤها بنزار وموسيقى عبدالوهاب حدثاً فنياً، تتابعه الصحف، بل إنها أول مطربة مصرية تغني لشاعر مجدد، يتحدث في قصائده عن تفاصيل حياتية، ومفردات متداولة من عصره.

ووجد عبدالوهاب ضالته في أشعار قباني، ليدخل مغامرة فنية فارقة في ألحانه، ويقدم بعدها بصوت نجاة أغنية «ماذا أقول له» و«متى ستعرف كم أهواك»، لتكتمل ثلاثية غنائية فريدة في ساحة الغناء العربي، وتفتح الباب للملحنين للتعامل مع أشكال القصيدة المعاصرة، وبعد أن تخوف الملحن محمد الموجي من تلحين «أيظن»، سنجده بعد سنوات يقدم بصوت عبدالحليم حافظ «رسالة من تحت الماء» و«قارئة الفنجان».

وكانت جارة القمر فيروز أول من شدت بأشعار قباني في أغنية «وشاية» عام 1956، وأغنيتها الشهيرة «لا تسألوني ما اسمه حبيبي» و«موال دمشقي»، وبعدها جاءت تجربته مع نجاة، وانتبهت كوكب الشرق أم كلثوم لنجومية هذا الشاعر، ولكن مطربة «الأطلال» لم تأخذ من ديوانه قصائد الحب، واكتفت بقصيدتين وطنيتين، الأولى «أصبح عندي الآن بندقية»، وذلك عقب أحداث نكسة 1967، ولحنها محمد عبدالوهاب، كما غناها أيضاً، والثانية «عندي خطاب عاجل إليك»، والتي رثا فيها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، ولحنها الموسيقار رياض السنباطي.

ولعل حماس قباني لصوت نجاة، باعد مطربات أخريات من جيلها عن الاقتراب من قصائده، حتى قدمت فايزة أحمد «رسالة من امرأة مجهولة» من ألحان محمد سلطان، وتعد هذه القصيدة رافداً للعالم الأثير لشاعر الحب، وإتاحته الفرصة لصوت أنثوي يعبر عن تجربته المحبطة.

الخطاب الأزرق

في مجلة الكواكب عام 1978 تحكي نجاة بعضاً من ذكرياتها مع موسيقار الأجيال فتقول: «سافرنا ـ الأستاذ محمد عبدالوهاب وأنا ـ إلى بيروت بدعوة من الصحافي اللبناني سعيد فريحة، لحضور حفل أقامه خصيصاً على شرفنا (عبدالوهاب ونجاة ونزار)، بمناسبة نجاح أغنية (أيظن)، وهناك رأيت نزار بلون شعره الأحمر القرمزي ليداري بعض الشعيرات البيضاء، ويحلق شاربه، وبعد ثلاثة أعوام من غناء قصيدته (أيظن) وصلني خطاب أزرق بحبر قرمزي يحمل طابع بريد سورياً، وصدق حسي فقد كان من الشاعر نزار قباني وفتحته فوجدت قصيدة (ماذا أقول له لو جاء يسألني؟)”.

وتابعت نجاة: «وبسرعة انتقل الخطاب من يدي إلى عود الأستاذ عبدالوهاب ليجهز اللقاء الثاني بين عبدالوهاب ونجاة ونزار، وطال وقت التلحين، وذات ليلة وبعد منتصف الليل فوجئت بالأستاذ يطلبني ويُسمعني اللحن كاملاً قائلاً إنه مسافر إلى بيروت وما هي دقائق إلا وكنت في بيت الأستاذ، وكانت المفاجأة أن الأغنية الجديدة ستقدم للجمهور ليلة العيد ولم يتبق سوى شهر، وقدمت القصيدة في حفل جماهيري على الهواء، واستقبلها الجمهور بحفاوة عظيمة، إلا أن نزار لم يستطع الحضور».

واستمر نجاح الأغنية الجديدة، وظلت على القمة سنوات، حتى جاءت قصيدة «إلى حبيبي»، التي كتبها نزار ولحنها عبدالوهاب عام 1973 وقُدمت خلال فيلم «جفت الدموع»، وغنتها نجاة في إحدى حفلاتها، وفي هذه الأغنية طلب عبدالوهاب تغيير مطلع الأغنية من «متى ستعرف كم أهواك يا رجلاً أبيع من أجله الدنيا وما فيها» إلى «متى ستعرف كم أهواك يا أملاً”.

وثارت زوبعة بين عبدالوهاب وقباني على تغيير هذا المطلع، واقتنع الشاعر بوجهة نظر الموسيقار، وكانت «متى ستعرف» آخر لقاء جمع شاعر الحب بالمطربة الرقيقة، ويقول مطلع الأغنية: «متى ستعرف كم أهواك يا أملاً.. من أجله الدنيا وما فيها، لو تطلب البحر في عينيك أسكبه أو تطلب الشمس في كفيك أرميها، أنا أحبك فوق الغيم أكتبها وللعصافير والأشجار أحكيها، أنا أحبك فوق الماء أنقشها وللعناقيد والأقداح أرويها».

وكانت مدة هذه الأغنية في الفيلم أقل من عشر دقائق، لكن بعد نجاحها غنتها عدة مرات على خشبة المسرح، وكانت آخر مرة في عام 2002 قبل اعتزالها، وفي واحدة من الحفلات التي قدمتها نجاة في الثمانينيات، عندما كانت في الأربعينيات من عمرها، أدت «متى ستعرف؟» على المسرح لما يقرب من ساعة، بينما لم تستغرق مدتها في الفيلم أكثر من عشر دقائق.

وعن تلك التجربة الغنائية، قال قباني: «عندما أنشر ديواناً شعرياً فإنني آمل في الحصول على نحو 15 ألف قارئ على أحسن تقدير، لكن عندما تغني نجاة إحدى قصائدي فإنها تجتذب الملايين في العالم العربي، ويعبّر صوت نجاة عن أعماق الأنثى الضعيفة الخجولة التي تخاف من البوح عمّا في عالمها الذاتي من أحاسيس، وأعتقد أنها أفضل من غنى قصائدي وعبّر عنها».

الكل يغني

غنت نجاة كثيراً للحب، ولكنها لم تذق طعم الاستقرار العاطفي في حياتها، وربما عاشته فقط من خلال السينما، ومنذ صغرها تعلقت بالشاشة، وإن كان ولعها بالغناء أشد، فكانت تحب الأفلام وتحرص على مشاهدتها، ومثلما كانت تقلد أم كلثوم، برعت في تقليد نجمات الأربعينيات، مثل ليلى فوزي وزوز ماضي وصباح، وغمرتها السعادة، عندما اصطحبها والدها حسني البابا إلى استوديو مصر، لتمثيل دور صغير في فيلم «هدية» 1947، للمخرج محمود ذوالفقار، وبطولة المطربة نجاة علي (سُميت الطفلة نجاة الصغيرة لتمييزها عن المطربة الأكبر سناً).

وفي العام ذاته شاركت في فيلم «الكل يغني» للمخرج عزالدين ذوالفقار، وبطولة كاميليا وإسماعيل ياسين ونجاة علي، وحسن فايق، وتدور أحداثه حول فتاة موهوبة في الغناء، إلا أن القدر يضعها هي وأختها الصغرى في مأزق اليُتم، حيث يموت أبوهما فجأة وتبدأ حالة العوز والحاجة تطاردهما، فتتجه الفتاة إلى احتراف الغناء حيث اكتشف أحد أصحاب الصالات أن صوتها جميل، وفي هذا الفيلم غنت نجاة «النوم» للشاعر بيرم التونسي ولحن حسن صقر، و«الشحاتة» للشاعر أبوبثينة ولحن أحمد صبرة، و«نامي يا نور العين» تأليف عبدالعزيز سلام وتلحين عبدالرحمن الخطيب.

وبعد ثلاث سنوات، شاركت نجاة في فيلم «محسوب العائلة» 1950 للمخرج عبدالفتاح حسن، وبطولة إسماعيل ياسين ومحمود المليجي وتحية كاريوكا وزينات صدقي وسميحة توفيق، ودارت أحداثه عن فتاة تتزوج سراً من شاب ثري، وعندما تعلم عمة الشاب تزوجه من فتاة مستهترة، وتدفعه لتطليق الراقصة التي تعكف على تربية ابنتهما (نجاة) وفي إحدى الحفلات تغني الطفلة وترقص الأم وتكتشف العمة سوء أخلاق الفتاة التي اختارتها زوجة لابن أخيها فتسعى إلى لم شمل الأسرة من جديد». وغنت «الطفلة» نجاة في هذا الفيلم اسكتش «افرح غني» مع إسماعيل ياسين وحسن فايق، وتأليف وتلحين يوسف صالح، واسكتش الزفة» تأليف الشاعر فتحي قورة، وألحان محمد هاشم.

وانتظرت نجاة أربعة أعوام، لتقوم بأول بطولة سينمائية لها في فيلم «بنت البلد» 1954 للمخرج حسن الصيفي، ودارت أحداثه في قالب كوميدي، مما جعل إطلالتها على الشاشة غير متناغمة مع طابع هذا الشريط السينمائي، وقالت في إحدى حواراتها، إنها ندمت على هذه التجربة، لأن طبيعتها الشخصية بعيدة عن هذا اللون الدرامي، وغنت في هذا الفيلم اسكتش من كلمات فتحي قورة «انتي دريتي» ولحن منير مراد، و«كده برضه يا خاين» ألحان عبدالعزيز محمود، و«مع السلامة» تلحين عزت الجاهلي.

«من قتل كامل الشناوي؟» مقال يشعل أزمة

اهتم الشارع المصري في منتصف الثمانينيات، بمتابعة القضية المنظورة أمام القضاء، والمتعلقة بالأزمة بين المطربة نجاة والصحافي مصطفى أمين، ونشرت جريدة «الأخبار» المصرية في عددها الصادر يوم 9 مايو 1986، أن محكمة جنح قصر النيل أصدرت حكمها برفض دعوى المطربة نجاة الصغيرة ضد الكاتب مصطفى أمين، وسيد عبدالفتاح الرسام بمؤسسة أخبار اليوم، وإلزامها بالمصاريف.

وكانت نجاة قد أقامت دعواها تضرراً من مقال للكاتب مصطفى أمين الذي نشر في جريدة «أخبار اليوم» تحت عنوان «من قتل كامل الشناوي؟» وتحدث فيه عن حياة صديقه الشاعر، وقصة قصيدة «لا تكذبي» وغرامه بالمطربة التي كتب القصيدة عنها، ولاحقاً تحدث عن هذا الأمر في كتابه «شخصيات لا تنسى» من دون أن يذكر اسم المطربة التي تسببت في عذابات شاعر الألم والحزن. وقالت نجاة في دعواها، إن أمين يقصدها بهذا المقال، وأنه قذف في حقها، وأن الصورة التي رسمها الفنان سيد عبدالفتاح ونشرت مع المقال، هي لوجهها رغم إخفاء عينيها، وحضرت المطربة بنفسها أمام المحكمة للتدليل على أن الصورة المرسومة تطابق وجهها، وطالبت في دعواها بإلزام المدعى عليهما ومؤسسة أخبار اليوم بتعويض نصف مليون جنيه، وتعطيل الجريدة مدة ثلاثة أشهر.

وترافع عن مصطفى أمين وسيد عبدالفتاح، المحامي عبدالفتاح فريد الديب المستشار القانوني لـ«أخبار اليوم»، وقضت المحكمة برفض الدعوى وإلزام نجاة بالمصاريف.

«الرجل الثاني» يمنع لقاء شاعر الحب بمطربته المفضلة

بعد نجاح أغنية «أيظن» اعتاد الشاعر نزار قباني أن يرسل قصائده الجديدة إلى المطربة نجاة، ومنها قصيدة «الرجل الثاني» وفي حوار صحافي نُشر في منتصف الستينيات ذكرت نجاة أنها تستعد لموسم غنائي جديد، بهذه القصيدة، والتي تدور على لسان رجل، ولكنها لم تشدُ بها، واختارت قصيدة «ماذا أقول له» التي لحنها الموسيقار محمد عبدالوهاب.

وظلت قصيدة «الرجل الثاني» بين دفتي ديوان قباني، ويقول فيها:

أنا هُنا

بعد عامٍ من قطيعتنا

ألا تمُدَّين لي بعد الرجوع يدا؟

ألا تقولينَ.. ما أخبارُها سُفُني؟

أنا المسافرُ في عينيكِ دونَ هُدى

حملتُ من طيَّبات الصينِ قافلةً

وجئتُ أطعمُ عُصفُورينِ قد رقدا

وجئتُ أحملُ تاريخي على كتِفي

وحاضراً مُرهق الأعصاب مُضطهدا

ماذا أصابكِ؟

هل وجهي مُفاجأةٌ

وهل توهَّمتِ أنّي لن أعود غدا

البقية في الحلقة المقبلة