عبقرية الاهتمام التلقائي

Ad

ذكرت فيما مضى أن المشروع الفكري للبليهي يقوم على (3) نظريات: الإنسان كائن تلقائي، وعبقرية الاهتمام التلقائي، والريادة والاستجابة. استوفينا الحديث عن النظرية الأولى، وهنا نتحدث عن النظرية الثانية «عبقرية الاهتمام التلقائي».

ما المقصود بعبقرية الاهتمام التلقائي؟

يتضح هذا المقصود إذا أدركنا أن كل الإنجازات المزدهرة التي تنعم بها البشرية اليوم هي نتاج عبقرية الاهتمام التلقائي لأفراد مبدعين تملكهم اندفاع تلقائي قوي وغلاب، استحوذ على عقولهم ونفوسهم، وجعلهم يثابرون بعزم، بدون كلل أو ملل، في سبيل تحقيق أهدافهم.

ما الذي تميزت به هذه القلة المبدعة عن غيرها؟

من المهم تأكيد أنها لا تختلف عن الكثرة الكليلة إلا بفارق الاندفاع الذاتي، وتملك الاهتمام الذاتي القوي، فالإنسان بما ينضاف إليه، وهو إمكان مفتوح لكل الاحتمالات، قابل لأن يكون من ذوي الفاعلية، أو من ذوي الكلال، لكن هذه القابلية لا تنفتح للتعبئة المختارة الممحصة، إلا إذا توافرت الرغبة الكافية، والولع القوي، والعزم الأكيد، والعطش الشديد للتشرب المعرفي.

هذا الانشغال المستمر والمستحوذ على الفكر والوجدان والسلوك، شغفاً تلقائياً، هو ما يميز عمل المبدع الخلاق عن الآخرين.

ذلك تفسير: لماذا الغرب في صعود، ونحن في هبوط؟!

للتدليل على ذلك، وعلى سبيل المثال، تسود في مجتمعنا العربي أوهام كبرى، تعطل عقله، وتئد جهده، وتشل فاعليته، وتهدر معنى الزمن في حياته، منها وهم أن التعليم السائد يؤدي تلقائياً إلى تغيير طريقة التفكير، وخلق الكفايات، وتطوير المجتمعات.

وما زال هذا الوهم يصور لنا بأنه إذا عم التعليم فإن المجتمع سيزدهر تلقائياً، وجهل المروجون لهذا الوهم أن التعليم تابع للثقافة السائدة، وليس منتجاً لها، فهو محكوم بالبيئة وليست البيئة محكومة به. التعليم في مجتمع متخلف يكرسه ويزكيه ويمنحه المشروعية، فهو أداة ترسيخ وتوطيد لما هو سائد لا أداة تغيير، إلا في المجتمعات الليبرالية التي تمنع السلطة من التدخل في تحديد السياسة التعليمية بما يقولب العقل بالرؤية الآحادية التي تقصي الرؤية المغايرة.

يؤكد ما سبق أن الخريجين العرب خلال قرن كامل، يتدفقون أفواجاً كل عام من مختلف الجامعات، فيزداد التخلف ويعم الكلال وتختفي الفاعلية، وتهدر الأموال، وتمضي السنون دون تحقق الآمال المعقودة على التعليم، لكننا نظل مصرين على الوهم.

التعليم الغربي جاء لاحقاً لحركة الفكر النقدي:

إننا لم نمعن النظر في عوامل التطور الحقيقي، وغفلنا عن أن تعميم التعليم في الغرب جاء لاحقاً لوثبة الفكر المزلزلة، فلم يكن هو الذي أدى إلى التطور الأوروبي، إنما حصول الطفرة الفكرية، وانتشار الفكر النقدي الذي فجر الطاقات وشغل الإمكانات.

المجتمعات التقليدية لا تتطور بتعميم التعليم، والنفوس لا تتغير بمعلومات تتلقاها اضطراراً وبضيق وتأفف، لأن التغيير يتطلب تسخيناً محركاً للنفس، وإلهاباً يفتح مغاليق العقل.

لذلك فإن إنتاج وإنجاز من يعمل لنفسه أو باندفاع ذاتي تلقائي ليس كإنتاج وإنجاز من يعمل لغيره أو يتحرك اضطراراً، وكذلك في مجال المعرفة، فإن من يبحث بنفسه، بدافع ذاتي تلقائي عن الحقيقة، ويسعى بلهف وشغف وشوق متجدد، ليس كمن يضطر لمواصلة الدراسة سنوات، في ضجر وضيق، ليحصل على شهادة للوجاهة والوظيفة واستجابة لإلحاح أهله، أو التزاماً اضطرارياً لضغط المجتمع ومتطلباته.

ما فاعلية الاهتمام التلقائي، وما دوافعه؟

للاهتمام التلقائي فاعلية كبيرة في التعليم والعمل وكل الأنشطة الإنسانية، بدوافع عديدة؛ منها الصراع والمنافسة والتحدي والخوف والبحث عن التميز وكسب الاحترام والتوجس من الاحتقار، ومنها الكره والحقد والثأر، ومنها الرغبة العارمة والشغف المتأجج والإيمان الراسخ والحب العميق. من هنا فإن الفلاسفة منذ فجر الفكر الفلسفي، في تعليلهم لحركة التاريخ والتطور الحضاري، ركزوا اهتمامهم على محركات الفكر والفعل، ودوافع الإقدام والإحجام المحفزة للطاقات الإنسانية: إبداعاً أو تدميراً… وللحديث بقية.

* كاتب قطري