كلما تحدث المتحدثون عن الواقع العربي أو العام ذكرونا بوقائع كانت مخفية حتى تقاعد أو استقال أحد المسؤولين الكبار في عواصم «صنع القرار» أو «الأخ الأكبر» فما لبثوا أن كشفوا عن تفاصيل محادثات ولقاءات بقيت ضمن نطاق السرية جدا في غرف موصدة الأبواب بإحكام، وليس أمتع من أن يستطيع المرء أن يتذكر موقفاً أو قراراً مصيرياً ويكتشف أن الوصول إليه قد استغرق لحظات، أو أن كثيرين شاركوا في صنعه حتى من يدعون أنهم ضده!! وفي كل هذا الكم من المذكرات لا يمكن إلا أن يكون كسينجر على رأس القائمة، حيث تعد مذكراته مرجعاً لمرحلة تاريخية مهمة ليس لمنطقتنا فقط، بل لمراحل منطقتنا والبقعة المظلمة من العالم الذي تعليه موجة وتطيح به أخرى في حين القائمون على صنع القرارات فيه ملتهون بأمور أخرى!

كل هذا الكم من الكتب التي تكشف حقائق عن الأصدقاء والأعداء أو «الأصداعداء» لا يقرؤها الكثيرون منا بشكل جيد أو متمعن إلا ليزينوا بها مجالسهم وأحاديثهم المطولة عن مدى معرفتهم واطلاعهم على كواليس صنع القرار في «مطابخ» بعيدة جدا عن حدائقهم الخلفية، أما هم (مسؤولينا) فما إن يعزلوا من مناصبهم- فالمسؤول في الكثير من الأحيان أم يتوكله الله أو ينبذه البلاط– إلا ويتحفوننا بمقالات مليئة بخطط ونصائح لإنقاذ الاقتصاد أو الثقافة أو التعليم أو الصناعة أو التجارة أو... أو... إلخ. وليسوا هم الوحيدين فالكثير من الموظفين الدوليين لا يختلفون عنهم في محاولة البقاء تحت ضوء ما حتى لو كان فانوساً مكسوراً في زقاق!!

Ad

وربما يتعلم المرء من تجاربه، وآخرون يستطيعون الرؤية من زاوية أخرى عندما يتحررون من ثقل المنصب أو حتى أن يستطيعوا فقط أن يعبروا عن رأي أو موقف كان سيكلفهم الكثير بما في ذلك حياتهم أحيانا!! ولا يملك أي شخص أن يمنع عنهم أو عنهن هذا الحق، ولكن ألا يبدو الموقف غير مبرر أو مفهوم عندما لا يعتذر من يفتي في قضايا الاقتصاد مثلا قبلها لأنه قد فشل في وضع خطة متنوعة للاقتصاد تبعد عنه شبح الإفلاس المتكرر أو «استعباد» سعر برميل النفط حتى أصبح كثيرون لا يبدؤون يومهم إلا بالسؤال المكرر منذ البئر الأولى في تلك الصحراء العطشى، لا يكشف ذاك المسؤول المعتق عن بعض الصناديق السوداء المخفية أو بنود الميزانيات في الخزائن الذهبية المخفية عن الأعين!! لا يكشف عن سبب تسرب بلايين الدولارات والدنانير بعد سنوات من انتعاش أسعار تلك السلعة الوحيدة.

إذا كان الاقتصاد «خطاً أحمر» فماذا عن الثقافة والإعلام والتجارة والصناعة والعمل والشؤون الاجتماعية والسياسة السكانية والتخطيط أو اللا تخطيط العمراني؟ كلها أسرار كونية لا يمكن الكشف عنها، يستطيع أحدهم وهو الواقف عند حافة قبره أن يكشف عن مخابئ غض العين والطرف عن الصرخات المتكررة منذ السبعينيات أو ما بعدها بقليل، وذاك الإغراق للعمالة الوافدة «الرخيصة»!! ولا أن يقول أين تبخرت مخصصات الأسر المحتاجة؟ أو كيف توزع المساكن والأراضي؟ أو هم لا يتقنون إلا فن النصح الممجوج والتنظير لسياسات أكل عليها الدهر وشرب، أو حتى التبجح بأن أصواتهم قد بحت في الاجتماعات الوزارية أو في مجالس الإدارة أو في تلك المنظمات الدولية العريقة، حيث الدراسات والبحوث أكثر من سلل الغذاء والأدوية للمحتاجين!

بعضهم يتخطى النصح ليتحول إلى «معارض» ويرفع الصوت عاليا، فيصفق العباد ويعلو الهتاف فمن هذا المعارض المقدام الذي كان قبل سنوات حاجباً برتبة وزير مع الاعتذار للحاجب طبعاً، وقع بنفسه قرارات دمرت التعليم لسنين وركعت الاقتصاد تحت وقع العقار والدين من صناديق ومؤسسات أحكمت قبضتها على رقبته حتى لم تترك له إلا ما يكفي لبقائه حيا؟! أو ذاك الذي قتل المزارع الواسعة ورحّل الفلاحين قسراً إلى مدن الصفيح، ودمر الصناعة وكأنه ينتقم منها ومعها تبخرت تلك الطبقة التي تتغنى بها كتب التاريخ ألا وهي «البرجوازية الوطنية» تلك التي عندما قيل لها إن زراعة الكيوي أكثر ربحا من القمح أو القطن أو الرز، أو أقنعهم ذاك الخبير بأن شعوبهم بحاجه إلى «الأفوكادو» أكثر من حاجتها لرغيف الخبز؟! أولئك الذين رفعوا الصوت عاليا بالرفض حتى اقتلعتهم الرياح القادمة من الأهل قبل الأغراب، أولئك الذين تركوا خلفهم بعضاً من بصيص نور في زمن لم يعرف سوى العتمة المستدامة.

لا يستطيع أحد أن يعتب على أحدهم لكونه قد نقل «البندقية» من كتف إلى آخر، فهذه الأخرى جزء من تطور البشر في المعرفة والثقافة والوقوف مع النفس ومحاسبتها أو هي تصحيح موقف خطأ، ولكن ألا يبدو أنه من الأفضل أن يعتذروا أولا لضحاياهم الكثر من «الرعايا»؟ ألا يبدو من المهم أن يكفّروا عن بعض ذنوبهم بالكشف عن سياسة ومخطط محكم لتمزيق لحمة مجتمع ما عبر تخطيط عمراني خبيث يفتت المفتت؟ ألا يستطيع بعضهم أن يغمز حول المخفي من الميزانيات وأين تبخرت رغم أنهم قد يكونون بعض المستفيدين منها؟ ثقافة الاعتذار لا تزال بعيدة عن مجتمعات يعتقد الكثيرون فيها أنهم «عباقرة» في حين هم أسماك صغيرة ألقى بهم برميل نقط في محيط متلاطم الموج وأسماك القرش تحيط بهم وهم لا يزالون يلعبون «الفيديو جيمز» منتصرين على الأعداء القادمين من مدن العلم بالحربة والسيف والخيل العربي!

الرجاء أطفئوا النور وأنتم خارجون من ذاك الباب الضيق، فلا أحد يريد نوركم ولا نصحكم ولا حتى أصواتكم المبحوحة من زمن عبودية النياشين.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية