بعد أن تحدثنا، في المقال السابق، قليلاً عن يعرب بن قحطان بن هود، وهو ثالث الشخصيات التي تحدّث عنها نشوان الحميري في قصيدته الشهيرة "النشوانية"، نتحدّث اليوم عن وصيته لأبنائه من بعده. ووفقاً لما وردَ في شرح القصيدة النشوانية، فإنّ يعرُب أوصى بنيه وصية مهمة ووثّقها بأبيات شعر نظمها بنفسه، وهي كما يلي:

نُعرّفكم بما وصّى أبوكـــــــــم

Ad

بما وصّاه قحطان بن هودِ

فوصّاكـــــم بما وصّـــــى أباهِ

أبوه عن أبيه عن الجدودِ

أذيعوا العِلــــــــــــمَ ثم تَعَلّموهِ

فما ذو العلم كالكَلّ البليدِ

ولا تصغوا إلى جهلٍ فتغوواِ

غواية كلّ مُحتمِل حسودِ

وذودوا الشرّ عنكم ما استطعتمِ

فليس الشّر من خُلق الرشيدِ

وكونوا منصــــــــفين لكلّ دانٍِ

لينصفكم من القاصي البعيد

عليكم بالتواضــــــع لا تزيغواِ

على فضلِ التواضع مِن مَزيد

فإنّ الصفح أفضل ما ابتغيتُمِ

به شرفاً مع المُلْك العنيد

وحقّ الجار لا تنســـــوه فيكمِ

فإنّ الجار ذو حقّ أكيدِ

عليكم باصطناع الخير حتـــىِ

تنالوا كل مكرمةٍ وجودِ

ونجد في هذه الأبيات وصيّة جامعة تؤكد الأخلاق الرفيعة، التي كانت "حِميَر" تتمسك بها، ويلتزم بها ملوكها. هذه الوصية تتضمن التأكيد على خصال أساسية لتستمر السيادة، وتعمّ العدالة، وتتطوّر الأمة، ويختفي الظلم، وأولى هذه الصفات هي الأخذ بالعلم والانكباب عليه، حيث قال يعرب: "أذيعوا العلم ثمّ تعلّموه"، ثم شدّد على أن الجاهل يقود شعبه إلى الغواية بقوله: "ولا تصغوا إلى جهل فتغووا".

بعد ذلك يحثّ أبناءه على اجتناب الشّر والحسد، ويؤكد أن الشر ليس من أخلاق الإنسان الرشيد. كما دعاهم إلى العدل والإنصاف، فإنّ نتيجته عكسيّة، بمعنى أنّ الآخرين سيكونون عادلين في المقابل. ووصاهم أيضاً بالتواضع، والصفح، والبرّ بالجار، وعمل الخير.

وقد ورد في بعض كتب التاريخ تفاصيل أكثر عن هذه الوصية، لكنّنا نقف عند ما ورد في الأبيات التي ذكرناها. بعد ذلك يقول نشوان في قصيدته:

أم أين يَشجُبُ خانه من دهرهِ

شَجَبٌ وَحَاهُ له بِقَدْرٍ واحي

إذن أصبح الملِكُ من بعد يعرب ابنه يشجب، الذي قيل إنه التزم بوصيّة والده، واستقام عليها إلى حين وفاته. ويقال إنّه توسّع في مملكته إلى أن ضمّ اليمن والحجاز. وهو الذي قال عن نفسه الأبيات التالية:

أوصى النبيُّ ابنَه قحطان جدّي بماِ

أوصى بَنيه أبي من بعدِ قحطانِ

حكــــــــمٌ حَواهُ أبي من دونِ إخوتهِ

وحُزتُه بعدَه مِن دون إخوانـــــي

وزادني يعربٌ مِن دونه شِيَمــــــــاًِ

وَصّى بنيهِ بها يوماً ووصَّـــــــــــــاني

حَفِظتها حينمـــا غيري استهان بهاِ

وحِفْظُها آخِرَ الأيــــــام من شاني

وبعد أن أكد التزامه أثناء حكمه بوصية أبيه يعرب، خاطب ابنه عبد شمس المكنّى بـ "سبأ" فقال:

أعَبْدَ شمسٍ أبَيْتَ اللعنَ مِن خَلَفٍِ

هل بَعديَ اليوم في مُلكنا ثاني؟

هل أنت تَحفظ عنّي ما حَفظتُ وماِ

به بَنَيتُ لكم مُلكي وسُلطاني؟

إنّي رأيتك هشّــــــاً ماجداً فَطِناًِ

وقد أخالُك طَبّاً غير كسلانِ

في المقال المقبل، سنتحدّث، بإذن الله تعالى، عن الملك الحميري "سبأ"، وننشر ما ورد في القصيدة النشوانية عنه.