في بيروت، كان نزار -كما تروي ابنته هدباء عن تلك المرحلة- "يخرج برفقة أصدقائه أنسي الحاج والرحابنة ويوسف الخال. كنا نسكن في منطقة البرستول فترة، ثم انتقلنا إلى منطقة مار إلياس، وكانت تعتبر منطقة نائية آنذاك، الأمر الذي جعل الكثيرين يستغربون اختياره هذا المكان للسكن".

كانت هدباء تدرس في الجامعة الأميركية في بيروت، وتستقل سيارة سرفيس إلى العازرية مقابل ربع ليرة، وتعود إلى مار إلياس، وأحيانا تستأجر سيارة تاكسي، وعند وقوف السيارة أمام المنزل يقول السائق: هذا بيت نزار قباني. الجميع يرحبون به من اللحام إلى بائع الخضار... لقد أعاد الثقة الى الناس العاديين وأشعرهم بأنهم يعرفون ما هو الشعر.

Ad

وتتابع هدباء: كانت بيروت مثل العروس تعج بالحياة. كل شيء كان مسموحاً به ومتوافراً. كانت الجامعة بعزها، وكذلك المسارح والحالة الفنية والثقافية. كانت تلك أيضاً أيام العز لفيروز والرحابنة ووديع الصافي. كان لبنان بلدا صغيرا، ولكن سقف الحرية العالي جعل الموجودين يتطورون كلهم. وقد نشأت من خلال ذلك أهم دور النشر اللبنانية. الفترة ما بين 1967 و1969 كانت الفترة الحقيقية التي تعرفنا فيها أنا وأخي توفيق على والدنا حقا، لأنه قبل ذلك كان بشكل دائم بعيدا أو مسافرا، فقد عشنا معا في بيت واحد وتعرفنا على أبينا الإنسان والشاعر. كانت شهرته تصلني قبل ذلك من أساتذة مثل أنطوان معلوف، الذي كان يدرسني الأدب العربي، والأستاذ يوسف نجيم ود. محمد نجم وخليل حاوي ود. إحسان عباس.

كان والدي بيتوتياً يخرج مرة واحدة في الأسبوع، ويحب أن ينام مبكرا ويستيقظ مبكرا، فالأساس عنده كان النظام وليس الفوضى. وكنت رفيقته في المشاوير والأمسيات الشعرية، وأذكر منها خصوصا أمسيته في التشابل في الجامعة الأميركية ببيروت، لأنها كانت المرة الأولى التي يلقي فيها شاعر أمسية شعرية في ذلك المكان.

وتقول هدباء: بيروت، في أغلب قصائد نزار كانت الأنثى (إلى بيروت الأنثى مع حبي، ويا ست الدنيا يا بيروت...).

دار نشر خاصة

أما عن دار النشر الخاصة التي أسسها القباني هناك فتقول: بعد أن استقال من العمل الدبلوماسي، وقد لامه صديقه الشاعر عمر أبوريشة على ذلك وقتها، فكان رد نزار عليه: الشعر يحتاج إلى تفرغ ولا يقبل شريكا. فتحت بيروت أبوابها له وكتب وقتها أنْ لا جمارك على الشعر في بيروت، وكان يشيد دائما بالحرية التي أعطتها بيروت إياه، وأنها لم تضغط على أصابعه أو تمنعه من الكتابة، وقد أعطت الحرية لشعراء آخرين كدرويش وأدونيس وغيرهما ممن اختاروا العيش فيها.

ولأن بيروت كانت عاصمة للنشر والثقافة في منتصف الستينيات إلى منتصف السبعينيات بفترتها الذهبية، وتعج بدور النشر والكتب والمثقفين وتستقطب وتجذب الجميع؛ كان من الطبيعي استقرار نزار فيها وتأسيسه لدار "منشورات نزار قباني" لتنشر شعره فقط، مما حمل البعض على الظن أنها أنانية منه، لكن حقيقة الأمر أن الهدف من تأسيسها هو إشرافه المباشر على كل شيء يتعلق بطباعة شعره، فهو لم يكن يريد أن تظهر أي غلطة في كتبه، فقد كان دقيقا جدا.

يذكر في تلك المرحلة أن صديقه سهيل إدريس صاحب "الآداب"، ومنير البعلبكي صاحب "دار العلم للملايين" قررا مع نزار عمل مشروع مشترك، وكان من المفروض أن يختاروا بناء ويؤسسوا دار نشر كبيرة تصبح بمصاف دور نشر عالمية كبيرة مثل "غاليمار" في فرنسا، أو "بنجوين" في بريطانيا، وقبل هذا الحلم أسس نزار دار النشر الخاصة به.

دفتر النكسة

في عام 1967، انتقل القباني من شعر الحب والشعر العاطفي إلى كتابة الشعر السياسي، فبعد نكسة يونيو (حزيران) في الحرب التي نشبت ستة أيام (5 - 10 يونيو)، بين كيان الاحتلال الإسرائيلي وكل من مصر وسورية والأردن، وخسر فيها العرب مزيدا من الأراضي لمصلحة الكيان الإسرائيلي، وهي شبه جزيرة سيناء، وقطاع غزة، والضفة الغربية، ومرتفعات الجولان، كما هُجر مئات الألوف من الفلسطينيين؛ اهتزت الروح العربية من الأعماق، وكان نزار واحداً ممن شعر بهذا الاهتزاز في قلبه، مما دفعه لكتابة قصيدة "هوامش على دفتر النكسة"، التي تسببت له بمشاكل كبيرة في الدول العربية، وخصوصا في مصر، وتقول القصيدة:

أنعى لكم، يا أصدقائي، اللغة القديمة...

والكتب القديمة

أنعى لكم كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة

ومفردات العهر والهجاء والشتيمة

أنعى لكم...

أنعى لكم نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة

مالحة في فمنا القصائد... مالحة ضفائر النساء

والليل والأستار والمقاعد... مالحة أمامنا الأشياء

يا وطني الحزين حولتني بلحظة

من شاعر يكتب الحب والحنين

لشاعر يكتب بالسكين

لأن ما نحسبه أكبر من أوراقنا

لا بد أن نخجل من أشعارنا

إذا خسرنا الحرب لا غرابة

لأننا ندخلها بكل ما يملك الشرقي من مواهب الخطابة

بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة

لأننا ندخلها بمنطق الطبلة والربابة

السر في مأساتنا صراخنا أضخم من أصواتنا

وسيفنا أطول من قاماتنا

خلاصة القضية توجز في عبارة

لقد لبسنا قشرة الحضارة

والروح جاهلية

بالنار والمزمار

لا يحدث انتصار

كلفنا ارتجالنا خمسين ألف خيمة جديدة...

لا تلعنوا السماء إذا تخلت عنكم

لا تلعنوا الظروف

فالله يؤتي النصر من يشاء

وليس حداداً لديكم يصنع السيوف

يوجعني أن أسمع الأنباء في الصباح

يوجعني... أن أسمع النباح

«الآداب» تنشر

وكانت مجلة الآداب اللبنانية هي أول من نشر هذه القصيدة، وقد كلف نزار وقتها صديقه الصحافي سهيل إدريس بنشرها، محذرا إياه من تبعات النشر التي قد تؤدي إلى تعرض المجلة للإغلاق أو المصادرة، مع عدم رغبة القباني في توريطه بذلك، إلا أن سهيل فاجأ نزار بحماسته وقال: إذا كان حزيران قد دمر كل أحلامنا الجميلة... وأحرق الأخضر واليابس، فلماذا تبقى "الآداب" خارج منطقة الدمار والحرائق؟ هات القصيدة.

وبدأت القصيدة بالانتشار في أوساط المجتمع كافة، لتلحقها مباشرة ردود الأفعال بين مؤيد ومعارض، بين مشجع وشاتم، وبقيت رسائل القراء وتعليقاتهم تتدفق على الصحف والمجلات ستة أشهر، ومما اتهم به نزار بعد الانتشار الكبير لهذه القصيدة أنه شاعر الغزل الفاحش، لا يحق له كتابة الشعر الوطني، وأنه المسؤول عن هزيمة حزيران بما كتبه خلال عشرين عاما من شعر تسبب بانحلال أخلاق الجيل الجديد، كما اتهموه بتثبيط الهمم وقتل الأمل والعمالة للعدو، مطالبين بشطب اسمه من قوائم العرب، وبأنه أيضا استغل جرح الأمة ليكتب ما يساعده على الشهرة ويسرق أضواء الكاميرات، وقد ركب موجة الوطنية.

ويتحدث نزار في مذكراته بشكل تفصيلي عن القصيدة فيقول: كيف جاءت القصيدة، ومن أين جاءت؟

لم أعد أتذكر الآن تفاصيل الولادة العسيرة. كل ما أتذكره أن أوراقي، وشراشف سريري، كانت غارقة بالدم... وأن زجاجات المصل التي كانت مثبتة فوق ذراعي لم تكن تكفي لتعويض الدم المهدور.

كتبت الهوامش في مناخ المرض والهذيان... وفقدان الرقابة على أصابعي. لذلك جاءت بشكل شحنات متقطعة، وصدمات كهربائية متلاحقة، تشبه صدمات التيار العالي التوتر... كما أنها من حيث الشكل لم تكن تشبه أيا من قصائدي الماضية. كانت مثلي مبعثرة ومتناثرة كبقايا طائر الفينيق.

بسبب هذه القصيدة منع نزار من دخول مصر، كما منعت قصائده من التداول، ومنعت قصائده المغناة من البث عبر الإذاعة المصرية في القاهرة، بعد أن قام العديد من المصريين، صحافيين وأدباء وسياسيين وغيرهم، (بعض الصحافيين ذكر أن من قاد الحملة على نزار هم صالح جودت ويوسف السباعي) باعتبار هذه القصيدة هجوما على العرب وإهانة لهم، فشنوا عليه مجددا هجوما كبيرا مطالبين السلطات المصرية باتخاذ كل الإجراءات ضده، كما طالب بعضهم بحرق كتبه.

الجمل يروي قصة الـ«هوامش»

في مقال للدكتور الراحل يحيى الجمل (وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء سابقا والفقيه الدستوري المصري) في جريدة البيان يروي حادثة، نقلا عن نزار قباني، بعد اكتشافه لقرار منع دخوله مصر على خلفية قصيدته «هوامش على دفتر النكسة»، يقول: عندما اكتشف القباني القرار هاله الأمر، واتصل تلفونيا بالمطربة الكبيرة كوكب الشرق أم كلثوم يستفسر منها عن صحة هذا الأمر، فاستبعدت أم كلثوم أن يكون ذلك صحيحا، ومن باب الحيطة اتصلت أم كلثوم بالرئيس جمال عبدالناصر وتبين لها أن لا علم له بالأمر... ويقول الدكتور الجمل: عندما سمع جمال عبدالناصر القصيدة قال لمن حوله: إذا كنا نحن بمشاعرنا وإحساسنا العادي كسرتنا الهزيمة وأحزنتنا، فهل نستنكر على شاعر مثل نزار قباني أن يقول ما قال!

إنه صادق فيما قال، اتركوه يدخل مصر وعندما يحضر أرجو أن أجد الوقت لأقابله وأكرمه.

رسالة إلى جمال عبدالناصر

وبعد أن وصلت هذه الحملة إلى درجة خرجت فيها عن المنطق النقدي، وعن أي حوار حضاري قرر نزار قباني أن يتوجه مباشرة إلى الرئيس المصري آنذاك جمال عبدالناصر، وأرسل له رسالة جاء فيها:

"سيدي الرئيس جمال عبد الناصر:

في هذه الأيام التي أصبحت فيها أعصابنا رمادا، وطوقتنا الأحزان من كل مكان، يكتب إليك شاعر عربي يتعرض اليوم من قبل السلطات الرسمية في الجمهورية العربية المتحدة لنوع من الظلم لا مثيل له في تاريخ الظلم.

وتفصيل القضية أنني نشرت في أعقاب نكسة الخامس من حزيران قصيدة عنوانها (هوامش على دفتر النكسة) أودعتها خلاصة ألمي وتمزقي، وكشفت فيها عن مناطق الوجع في جسد أمتي العربية، لاقتناعي أن ما انتهينا إليه لا يعالج بالتواري والهروب، وإنما بالمواجهة الكاملة لعيوبنا وسيئاتنا. وإذا كانت صرختي حادة وجارحة، وأنا أعترف سلفا بأنها كذلك، فلأن الصرخة تكون بحجم الطعنة، ولأن النزيف يكون بمساحة الجرح.

من منا يا سيادة الرئيس لم يصرخ بعد 5 حزيران؟

من منا لم يخدش السماء بأظافره؟

من منا لم يكره نفسه وثيابه وظله على الأرض؟

إن قصيدتي كانت محاولة لإعادة تقديم أنفسنا كما نحن، بعيدا عن التبجح والمغالاة والانفعال. وبالتالي، كانت محاولة لبناء فكر عربي جديد يختلف بملامحه وتكوينه عن ملامح فكر ما قبل 5 حزيران".

وقال أيضاً: "والقضية ليست قضية مصادرة قصيدة أو مصادرة شاعر. لكن القضية أعمق وأبعد، القضية أن نحدد موقفنا من الفكر العربي. كيف نريده؟ حرا أم نصف حر؟ شجاعا أم جبانا؟ نبيا أم مهرجا؟.

القضية هي أن يسقط شاعر تحت حوافر الفكر الغوغائي لأنه تفوه بالحقيقة".

وقال في ختامها:

"يا سيدي الرئيس...

لا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف على نزيفه. والمجروح على جراحه، ويسمح باضطهاد شاعر عربي أراد أن يكون شريفا وشجاعا في مواجهة نفسه وأمته، فدفع ثمن صدقه وشجاعته.

يا سيدي الرئيس...

لا أصدق أن يحدث هذا في عصرك".

بيروت في 30 أكتوبر 1967- نزار قباني

وعلى الرغم من انشغال الرئيس عبدالناصر إلا أنه رد على الرسالة، ويروي أحد المقربين منه أنه وضع خطوطا تحت أكثر مقاطع الرسالة، وكتب بخط يده التعليمات التالية:

1- لم أقرا قصيدة نزار قباني إلا في النسخة التي أرسلها لي، وأنا لا أجد أي وجه من وجوه الاعتراض عليها.

2- تلغى كل التدابير التي قد تكون اتخذت خطأ بحق الشاعر ومؤلفاته، ويطلب إلى وزارة الإعلام السماح بتداول القصيدة.

3- يدخل الشاعر نزار قباني الجمهورية العربية المتحدة متى أراد، ويكرم فيها كما كان في السابق.

التوقيع: جمال عبد الناصر

ومن هنا دخلت القصيدة بحماية الرئيس جمال عبدالناصر إلى مصر، وعاد نزار لزيارة القاهرة مرات عديدة.

بعد وفاة الرئيس عبدالناصر، كتب نزار قباني في رثائه عددا من الأغاني عاش معها الشعب المصري والعربي، حيث كتب القباني قصيدة "جمال عبدالناصر"، التي تصدرت ديوان "لا" الذي كان معظمه رثاء للرئيس الراحل، حتى القصائد غير المباشرة كانت تشير إلى أمجاد عبدالناصر ومدى تأثيره بالشعب العربي عموما، وبالمصري خصوصا، ويقول فيها:

قتلناك... يا آخر الأنبياء

قتلناك...

ليس جديدا علينا

اغتيال الصحابة والأولياء

فكم من رسول قتلنا...

وكم من إمام...

ذبحناه وهو يصلي صلاة العشاء

فتاريخنا كله محنة

وأيامنا كلها كربلاء..

وفي قصيدة "الهرم الرابع" يرثي الرئيس الراحل أيضا،

ويضم ديوان "لا" ست عشرة قصيدة، وهي: "جمال عبدالناصر- رسالة إلى جمال عبدالناصر- الهرم الرابع- الحاكم والعصفور- مورفين- الوصية- بانتظار غودو- قراءة أخيرة على أضرحة المجاذيب- حوار مع ملك المغول- إيضاح إلى قراء شعري- طريق واحد- رسالة إلى عبدالمنعم رياض- دفاتر فلسطينية- لصوص المتاحف- تعريف غير كلاسيكي للوطن- خطاب شخصي إلى شهر حزيران"، ولم يصدر هذا الديوان حتى عام 1998.

من أقوال نزار في الشعر

في كتابه "قصتي مع الشعر" يسجل نزار مذكراته ويضمنها رؤيته للشعر، ومما يقول: كنت أؤمن أن الشعر هو إشعال عود ثقاب في أشجار الغابة اليابسة. الغابة تصير أجمل عندما تشتعل... عندما يتحول كل غصن من أغصانها إلى شمعدان. الشعر ليس انتظار ما هو منتظر، وإنما هو انتظار ما لا يُنتظر.