لعبت المصادفة دورها في دخول سعيد صالح إلى عالم الفن، لاسيما أنه نشأ في بيئة ريفية، ولم يتردد يوماً على دور السينما أو المسرح، لكنه سجَّل أول ظهور في بروفات مسرحية بجامعة القاهرة، وكان حينها طالباً في كلية الآداب، وذهب مع زملائه لمقابلة مخرج العرض النجم السينمائي حسن يوسف، وانتبه الأخير إلى هذا الطالب المشاغب الذي لا يكف عن المزاح، وتعطيل البروفة، فنادى عليه وأقنعه بالتمثيل، وبعد نجاح العرض، قدمه يوسف إلى مسرح التلفزيون، ليبدأ مشواره الاحترافي كفنان كوميدي متفرد.

وتصادف أيضاً أن يحصل الطالب سعيد صالح على ليسانس الآداب من جامعة القاهرة عام 1960، ويتجه إلى احتراف التمثيل، وربما قبل صديق عمره النجم عادل إمام، وظهر في أدوار صغيرة على شاشة التلفزيون والسينما والمسرح، وتفجرت موهبته كفنان متفرد لا يقلد أحداً، واستطاع أن ينتزع الضحك بسهولة من أفواه الجماهير.

Ad

ولم ينس صالح مكتشفه الأول، وتصادف ظهور النجم حسن يوسف في برنامج تلفزيوني نهاية التسعينيات، وفؤجئ بمداخلة من الطالب المشاغب، يذكره بأول لقاء معه في جامعة القاهرة، وأنه قبلها لم تكن له علاقة بالتمثيل، لكن يوسف كان يبحث عن ممثل يقوم بدور كوميدي، وأسند إليه الدور دون تردد، وصدق حدسه أن هذا الشاب في داخله طاقة كوميدية هائلة، ومن الممكن أن يصبح نجماً كبيراً في المستقبل.

حادث غامض

وكان فتى المسرح على موعد مع أول بطولة مسرحية له في "هالو شلبي" عام 1969، وحققت نجاحاً كبيراً، ومازالت القنوات الفضائية تعيد عرضها حتى الآن، لكن التجربة الفارقة كانت في "مدرسة المشاغبين" 1973، ولعب دور "مرسي الزناتي" مع النجوم عادل إمام وسهير البابلي وأحمد زكي وحسن مصطفى ويونس شلبي وعبدالله فرغلي وهادي الجيار ونظيم شعراوي وسمير ولي الدين، وأثارت هذه المسرحية الكثير من الجدل، رغم نجاحها الجماهيري الكبير.

كانت "مدرسة المشاغبين" نقطة انطلاق لصالح وزملائه الذين شاركوه بطولة المسرحية، وتحرك بهم قطار النجومية والشهرة إلى محطات كبرى، ومنهم النجم أحمد زكي الذي لعب دوراً صغيراً في مسرحية "هالو شلبي"، بينما بدأت مسيرة الموهوب سعيد صالح يحالفها سوء الحظ، وربما خانه التوفيق في قبول بعض الأعمال السينمائية خلال فترة السبعينيات، والمعروفة باسم "أفلام المقاولات"، ما جعل الكاتب الساخر محمود السعدني يقول عنه: "سعيد صالح قنبلة ضحك من الوزن الثقيل لكنه لم يأخذ حقه، ولو انضبط سلوكياً لكان نجم الكوميديا الأول في العالم العربي ونافس عادل إمام على الزعامة".

بدت إشادة السعدني تلمح إلى أن الارتجال في المسرح، وجد طريقه إلى حياة صالح الشخصية، وأنه بطبعه لا يحب القيود، ويمارس فنه بتلقائية الفنان الشعبي وليس الأكاديمي المنضبط، وتسببت مزحاته في غضب بعض زملائه منه، حتى أنه في أحد ليالي عرض مسرحية "كعبلون" اتجه نحو ممثل شاب، ووجه له بعض العبارات الارتجالية القاسية، دون مبرر درامي، ولا شك أن خروجه عن النص تسبب في تعثر مشواره الفني.

البطولة المطلقة

وتوالت أعمال سعيد صالح في بطولات جماعية مع نجوم آخرين، مثل مسرحية "العيال كبرت" 1975، وشاركه يونس شلبي وأحمد زكي وكريمة مختار والممثلة المعتزلة نادية شكري، وبعدها ارتحل إلى أدوار البطولة المطلقة، وقدم عام 1983 مسرحية "لعبة اسمها الفلوس"، وكعادته في الخروج عن النص، قال جملة (إفيه) قلب حياته رأساً على عقب، واعتبرتها الرقابة نوعاً من الإسقاط السياسي على الحكم في تلك الفترة، وتعرَّض للحبس ستة أشهر وسدد غرامة 50 جنيهاً، في سابقة لم تحدث لفنان كوميدي من قبل.

وبعدها ظهر العداء بين صالح والرقابة التي اتهمته بالخروج عن النص والآداب والتعرض للقيم الدينية، وأصدر القاضي حكماً بحبسه احتياطياً لمدة 7 أيام في سجن الحضرة بمدينة الإسكندرية، وكانت تلك أول مرة يُحبس فيها فنانٌ احتياطياً على ذمة التحقيق لخروجه عن النص.

ضجة كبيرة

ولاحقاً رفضت المحكمة الاستئناف على الحكم، وغرَّمت سعيد صالح 100 جنيه، وأسقطت حقه بطلب رد القاضي، وأثارت القضية ضجة كبيرة وتنحى القاضي وقتذاك، كونها أصبحت قضية رأي عام، ثم أصدر القاضي المنتخب لمتابعة القضية عبدالوهاب أبوالخير قراراً بالإفراج عن صالح بضمان مالي قيمته 100 جنيه وانهار وقتها باكياً بعد الحكم بالإفراج عنه.

وتواترت الحكايات حول أسباب حبس سعيد صالح، ونفى الأخير خلال مؤتمر صحافي أن السبب يتعلق بقصة الاستهزاء بالرؤساء، بل لكونه سخر من شخص نائم خلال عرض المسرحية ولم يكن يعلم لحظه العاثر أن هذا الرجل النائم هو قاضٍ وأنه سيقف أمامه، فقال: "وقعتك سودة يا سعيد.. أقصى عقوبة هاخدها 50 جنيه"، وأظهر تقرير الرقابة أن صالح ردد عبارة منافية للآداب وأنه خلع سرواله على المسرح، وهذا الأمر تصل عقوبته إلى السجن لمدة ثلاث سنوات، لكنه نفى ما قالته الرقابة، وأكد أنه يحترم جمهوره، وقد كان يرتدي سروال فلاحي وليس بنطالًا".

سيد درويش

بعد تلك الواقعة، حاول فتى المسرح المشاغب أن يخوض تجربة مغايرة تمتزج فيها الكوميديا بمضامين هادفة، وخلال تلك الفترة، أظهر موهبته في التلحين والغناء، وبدا تأثره الواضح بأسلوب فنان الشعب سيد درويش، وقدّم من خلال مسرحية "كعبلون" 1985 بصوته وألحانه قصائد صلاح جاهين وفؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم، وفي ذروة نجاح المسرحية التي لم تخل من "إفيهات" وخروج بطلها عن النص، حدث حريق غامض في مسرح "الهوسابير" وسط القاهرة، والتهم ديكور "كعبلون" وتوقف عرض المسرحية.

وكر النسر

بعد أن خاض صالح تجربة "كعبلون" وحريقها الغامض، تعرض لأصعب اختبارين في حياته، أولهما في نوفمبر 1991، حين تم ضبطه داخل وكر في حارة "مظهر" بضاحية "السيدة زينب" الشعبية وسط القاهرة، وكان يتعاطى المخدرات مع شخص يُدعى أحمد توفيق وشهرته "النسر" ويرافقه الفنان صبري عبدالمنعم وستة أشخاص آخرين.

وتناقلت الصحف خبر القبض على نجم الكوميديا ورفقته، ونفى المتهمون تعاطيهم المخدرات، وقالوا إنهم كانوا في جلسة تحضير لمسرحية "حلو الكلام" وأمرت النيابة بحبسهم عدة أيام على ذمة التحقيقات، ثم أخلت سبيلهم حتى برأتهم المحكمة لعدم كفاية الأدلة.

ولم تمض أربع سنوات أخرى حتى ألقت مباحث الإسكندرية القبض على سعيد صالح في يوليو 1995، بينما كان يتعاطى المخدرات في شقة بضاحية "مصطفى كامل" ومعه بعض زملائه، بعد أن تناولوا وجبة فسيخ (أسماك مملحة) وكانوا يتأهبون لإجراء بروفات مسرحية "تعال نلعبها".

فترة صعبة

وتكرر المشهد بحبس صالح وسبعة من زملائه بتهمة تعاطي المخدرات وأحيلوا إلى محكمة الجنايات التي قضت في 11 نوفمبر 1995 بحبس سعيد صالح لمدة عام مع الشغل وغرامة 10 آلاف جنيه، كما عاقبت رفاقه حمدي حنفي (مدير أعماله) وهاشم أحمد محمد بنفس العقوبة والغرامة، وبرأت المحكمة باقي المتهمين وهم الفنان سعيد طرابيك وشعبان جعفر وسراج الدين محمود المحامي، واستبعدت المحكمة عن صالح تهمة إدارة مسكن لتعاطي المخدرات.

وكانت الفترة التي قضاها في السجن صعبة، فكانت غرفته بجانب غرفة المشنقة وأفقده هذا الامر الشهية للطعام، وكان يتذكر ابنته (هند) طوال الوقت، ولم يكن معتاداً على الاستيقاظ مبكراً، وطلب من إدارة السجن استثنائه من ذلك الأمر غير أن إدارة السجن رفضت، ثم صدر الحكم بحبسه لمدة أسبوعين لكن لكونه قضى مدة 17 يوماً محبوساً احتياطياً، فقد تم تنزيل المدة.

سجن الحضرة

أمضى صالح فترة العقوبة في سجن "الحضرة"، وبعد الإفراج عنه، تحدث للإعلام عن هذه التجربة، وزعم أنه تم تلفيق القضية له بسبب مواقفه المعارضة التي يقدمها على المسرح، وقال: "اختفيت تماماً عن السينما والمسرح والفن ككل عام 1996، لسبب بسيط هو أنني كنت في السجن.. وأكون سعيداً جداً حينما أتعرض للسجن في سبيل الدفاع عن موقف أو قضية أؤمن تماماً بها.. الكل يعرف أن مواقفي السياسية، ورفضي لكثير من الأوضاع الموجودة هي ما دفعهم لمحاولة إسكاتي بأي وسيلة".

أسباب إلقاء القبض

وتوالت تصريحات صالح: "تعاطي المخدرات هو التهمة التي علقوا عليها أسباب قيامهم بالقبض علي أثناء جلوسي مع مجموعة من أصدقائي بمساكن مصطفى كامل بالإسكندرية، والحمد لله أن كل أصدقائي والمقربين مني لم يصدقوا الاتهام لكوني كنت أسعى للإقلاع عن التدخين.. فهل يعقل أن يحاول مدمن ترك التدخين؟".

المشاغب والأسوار

تركت تجربة عام خلف الأسوار، أثرها في النجم المشاغب، وقال: "تحسنت صحتي في السجن، ربما لأنني كنت بعيداً عن العمل وضغوطه والمسؤولية بشكل عام، بل تندهشون إذا أكدت لكم أنني شعرت في السجن بأنني أكثر حرية من الآخرين، وكنت ألعب الكرة، وقمت بأنشطة اجتماعية عديدة، وثقافتي زادت وتعمقت من خلال الراديو "الترانزستور" الذي لم يفارق أذني معظم ساعات اليوم، وكانت شهور الزنزانة فرصة للتأمل والتقرب إلى الله، وقرأت كثيراً وعشت مئات الحالات الإنسانية مع أبطالها الحقيقيين، وتنقلت في قصص حياتهم المثيرة والمدهشة، ووجدت أن كل حالة منها تصلح أن تكون مادة درامية لفيلم أو مسرحية".

وأضفى صالح فلسفته الخاصة على هذه التجربة، قائلا: "خرجت بقناعات منها أن السجن هو أفضل مكان وأحسن مجتمع مصغر في العالم، يجعلك تشعر بالأمان فلا ثروة ولا شهرة ولا أي شيء.. الإنسان داخل السجن يترك كل شيء خارج الباب فلا قلق ولا خوف من أي شيء.. لا سيارة تحت العمارة ولا نقود بداخل خزانة حديدية، وكل من تلتقي بهم لا يكذبون لا في هيئتهم ولا ملابسهم، الجميع سواسية، كما أن هناك نظاما غريبا ومدهشاً، فلا يمكن أن تجد إنساناً جائعاً، فالطعام بنظام والعلاج دقيق جداً على عكس حياتنا الهمجية في الخارج".

وبخفة ظله المعهودة قال: "كنت أتوقع عند دخولي السجن لأول وهلة أنني سأصطدم بـشخصية "أبو شفة" و"سلومة الأقرع" وغيرهما من الشخصيات الشريرة التي اعتدنا تقديمها في أفلامنا السينمائية، لكنني وجدت الأمر مختلفاً تماماً، فهناك قدر كبير من الواقعية والمعاناة، وغالبيتهم تعرضوا لظروف نفسية واقتصادية واجتماعية قاسية أدت إلى دخولهم السجن".

عندما خرج صالح من السجن، ارتبكت مشاعره تماماً، وفكر كيف سيزاول نشاطه الفني بعد تلك العثرات، وقد وصف هذه اللحظات الصعبة بقوله: "شعرت بخوف وهزة نفسية، ورغم أن هناك (زفة) كانت في استقبالي عند الخروج (يقصد استقباله بحفاوة كبيرة)، فإنني كنت أشعر بقلق شديد من داخلي، وبالفعل عانيت بشدة من الناس وأساليبهم الملتوية وأفكارهم المريضة لدرجة أنني تمنيت للحظة أن أعود مرة ثانية إلى السجن، لكنني أصبحت أكثر قوة وإيماناً وصلابة، فحياتي قبل السجن كانت شيئاً وحياتي بعده شيء آخر".

ومضت الأيام بنجم الكوميديا، وظل على نقائه وتلقائيته المعهودة، ورغم ابتعاده عن أدوار البطولة، ظلت مكانته حاضرة لدى جمهوره العريض في مصر وأرجاء العالم العربي، وفي إيامه الأخيرة كان حريصاً على أداء الصلوات وقراءة القرآن، قبل أن تشتد عليه الأمراض، ويدخل في غيبوبة حتى رحيله في 31 يوليو 2014، وتصادف أن يكون يوم وفاته هو ذاته يوم عيد مولده السادس والسبعين.