• ماذا يمثل شهر رمضان بالنسبة لك على مستوى الكتابة والإبداع؟

- قيل إن رمضان من الرمض، وهو شدة الحر، ومنه الرمضاء، أي الأرض الشديدة الحرارة، وقيل إن الرمض هو الإزالة والمحو، وأعتقد أن المعنى المجازي لرمضان يجمع بين الرأيين، فهو ما يرمض المرض من الإنسان، وكذلك يرمض الذنوب أو يجعلها رماداً، فرمضان هو الشهر المخصص لتنفيذ فرض الصيام، "صوموا تصحوا"، وبما يؤدي إليه الصيام، رغم ما فيه من مشقة إلى غفران الذنوب. وبالنسبة لي، خصوصية رمضان على مستوى الكتابة تنبع من اختلافه عن بقية الشهور بالنسبة للمجتمع ككل، فصيام النهار يقسم اليوم إلى قسمين؛ الأول: نهاري، فالصيام يسبغ على العمل مشقة، تمتد إلى ما بعد الرجوع إلى البيت، فينفرد المرء بنفسه قارئاً للقرآن أو محاولاً النوم. أما القسم الثاني، فيبدأ بلمة العائلة حول مائدة الإفطار، فهو قسم ليلي بامتياز يستلزم السهر، ففيه جلسات سمر أمام التلفزيون أو من دونه، وفيه الخروج لصلاة القيام (التراويح)، بعدها لا نشعر أن اليوم انتهى، بل أمامنا متسع من الوقت قبل السحور، أقضيه غالباً في صحبة الكتب. أما الكتابة، فلها وقتها الذي تختاره. وبالنسبة لي، فإن كتابتي لا تتأثر بالصوم في رمضان.

Ad

الشعر العربي

• في المنجز الأدبي العربي، لماذا يظهر شهر الصوم وأجواؤه بوضوح في النصوص الشعرية أكثر من السرد الروائي؟

- لأن الشعر العربي أكثر ذاتية من الرواية، فالشاعر يصب مشاعره التي تثيرها الأجواء الرمضانية في قصيدة، ومنذ صدر الإسلام ورمضان حاضر كموضوع في الشعر العربي، فالحالة التي يبعثها الصيام في نفس الصائم تكون مناسبة لاستدعاء القصيدة، لكن هنا أؤكد أمرين؛ أولهما أن أغلب هذه القصائد مجرَّد نظم متماثل أنتجته بواعث متشابهة (الصيام وآثاره)، لذا فالجيد فيها قليل، ومنه مثلا قصيدة المبدع الكبير محمود حسن إسماعيل، التي يقول فيها مخاطباً رمضان: ورحت تسد للأجواد شرعاً من الإحسان علوي النظام، بأن الجود حرمان وزهد أعز من الشراب أو الطعام. وثانيهما أن العلاقة بين الشعر والصيام لم تقتصر فقط على النفوس المؤمنة، فها هو أبونواس يتبرم من طول الشهر، ويقول: ألا يا شهر كم تبقى، مرضنا ومللناكا إذا ما ذكر الحمد لشوال ذممناكا.

أما بالنسبة للرواية، فالأمر يختلف، فهي بناء معقد متشابك لا يمكن أن تقتصر أحداثه على الصيام، ولا يكون انفعالاً لحظياً كالذي تعبِّر عنه القصيدة العربية، خصوصاً التقليدية منها، ويتسع مداها الزمني لأكثر من شهر رمضان، لكن ذلك لا يعني أن الرواية العربية تجاهلت الشهر الكريم، لكن حضوره فيها يختلف، فرمضان شهر كامل له طقوسه وفروضه، ومن خلالهما يترك أثره المميز في الناس وفي حياتهم اليومية، وهي الأمور التي قد تعالجها الرواية.

صدق المشاعر

• لماذا يبدو ما يمكن تسميته مجازاً بـ"أدب رمضان" فضيلة غائبة عن الإبداع؟

- فيما يتعلق بأدب رمضان، أنا لا أرتاح لمثل هذه التسميات، فالأدب أدب، لا يتم تمييزه وفقاً لشهور أو أماكن، والمسألة عندي لا ترتبط بالجنس الأدبي بقدر ما ترتبط بصدق المشاعر والموهبة وإجادة التعبير.

«بداية ونهاية»

• هل تتطلب الكتابة الإبداعية عن رمضان أديباً بمواصفات خاصة؟

- كما قلت لك، المسألة تتطلب فقط الموهبة والصدق والإجادة، ونأخذ كمثال روايات أديبنا نجيب محفوظ، فأنت تجد للشهر حضورا في الثلاثية، وفي "بداية ونهاية"، و"خان الخليلي"، و"المرايا"، وأعمال أخرى، من دون أن يكرر محفوظ نفسه. ففي "خان الخليلي" وجدنا رمضان جزءا من النسيج الروائي، أثر في الأحداث، وفي الشخصيات وتفاعلها مع بعضها البعض، ومع المكان. وقد أفاد الكاتب من كل ذلك في رسم الإطار الواقعي لروايته وحركة بطلها الذي كان يؤجل في رمضان ممارسته لعادة القراءة اليومية إلى ما بعد الإفطار، حيث يكون تركيزه أعلى. وفي "بداية ونهاية" يأتي رمضان على الأسرة التي فقدت عائلها، فلم تستطع توفير احتياجات الشهر الكريم. وفي "الثلاثية" يأتي رمضان، فيغير السيد أحمد عبدالجواد وشلته عادتهم في السهر الماجن. وفي رواية "قلب الليل" نجد رمضان حاضراً، من خلال السهرات والأمسيات الفنية حتى السحور. وفي "المرايا"، يذكر أن ليالي رمضان كانت فرصة جميلة للصغار يجتمعون في الشارع بلا اختلاط، ويتراءون على ضوء الفوانيس، وهم يلوِّحون بها في أيديهم، ويترنمون بأناشيد رمضان. فقد غاصت هذه الروايات في تفاصيل الطقوس الشعبية المصرية. ولم يكتفِ محفوظ بوصف الاحتفالات الدينية وشعائرها، بل كان القارئ يجلس إلى مائدتي الإفطار والسحور، ثم يغوص مع الشخوص في حالاتهم الروحية عند سماعهم صوت الأذان، أو حين يخشعون في الصلاة، فقد التقط طقوس ما بعد الإفطار وصاغها في أكثر من رواية.

أعمال فنية

• ما أهمية تحويل الأعمال الأدبية التي تطرقت إلى رمضان لأعمال درامية وعرضها في هذا الشهر، مثل مجموعة "صائمون" للكاتب أحمد بهجت، و"في بيتنا رجل" لإحسان عبدالقدوس؟

- اعتادت الأسرة العربية أن تجتمع في رمضان أمام التلفزيون لتتابع المسلسلات والأعمال الدرامية، وأعتقد أن الاهتمام يجب أن يكون بتقديم أعمال فنية جيدة تمتعهم وترتقي بهم، سواء تطرقت إلى رمضان أم لا، فقصر الاهتمام على مثل هذه الأعمال يجعل من مجرد موضوعها جوازاً للمرور مما قد يسوغ أعمالاً هابطة.

تفضيلات القراء

• إلى أي مدى يعتبر رمضان هذا العام فرصة للقراءة، في ظل التوقف عن العمل وحظر التجول جراء فيروس كورونا؟

- حظر التجول هذا العام سيغيِّر من أشياء كثيرة، وسيحرم الناس من ممارسات اعتادوا عليها في ليالي رمضان، منها الخروج لصلاة التراويح والتنزه بعدها. أعتقد أن الوقت الذي كانت تستغرقه هذه الأشياء ستحظى به الكتب، على اختلاف أنواعها، ووفق تفضيلات القراء، وقد تستمر السهرة مع القراءة حتى وقت السحور، ثم صلاة الفجر، فليس ثمة خروج إلى العمل في الصباح التالي، بل قراءة حتى الفجر، ثم نوم أغلب فترات النهار.

استشعار الخطر

• وكيف أسهمت العزلة المنزلية التي اضطر إليها البشر حالياً في تعزيز سلوك القراءة والعودة إلى الكتاب باعتباره أفضل صديق؟

- العزلة تبدو سجنا للإنسان العادي، تجسِّد له الحرمان في أجلى معانيه، فلو كان محباً للقراءة معتاداً عليها فسيجد في سجنه متنفساً تتيحه الكتب. أما عزلة المبدع، فهي ليست كذلك، تكون فرصة للانفراد بالذات، والحوار معها. بالنسبة لي، استشعار الخطر الذي يمثله الوباء لا يمثل كابوساً، "كورونا" قد يعني الموت، لكن أشياء أخرى كثيرة تعنيه، ومن لم يمت بـ"كورونا" مات بغيره. أعيش حياة عادية إلا قليلاً، فظروف الإعاقة الحركية التي تصاحبني منذ طفولتي وضعتني في حالة دائمة تشبه العزلة، تعايشت معها، وتآلفت معها، فالأمر إذن ليس جديداً عليَّ، ما جد فقط مع الحظر هو عدم الذهاب للعمل، ومن ثم زاد الوقت المتاح للقراءة، ولملاحظة فزع المفزوعين.