يبقى إيمانويل ماكرون رئيساً فرنسياً تقليدياً جداً رغم الصورة اللامعة التي يحاول ترسيخها كمعاصر راديكالي (لكن من دون أن يرتبط بعدد كبير من العشيقات على غرار مسؤولين آخرين!). هو يحمي الصناعات المحلية، لا سيما تلك التي تُصنّع السيارات أو الأسلحة، كما أنه يدعم المزارعين ويرسل الجنود إلى دول إفريقية صغيرة ويزيد الديون المتراكمة يوماً بعد يوم، حتى أنه يتمسك بالتقاليد، فيكتفي بإجراء مقابلات مع "فاينناشل تايمز" أو "إيكونوميست" ويتكلم بكل فصاحة عن التضامن الأوروبي قبل أن يعقد اتفاقاً ضمنياً مع ألمانيا.

قبل أيام أجرى رئيس تحرير صحيفة "فاينناشل تايمز" الجديد مقابلة، فقال ماكرون إن أوروبا أصبحت اليوم أمام "لحظة الحقيقة"، لمحاربة فيروس كورونا، هي تحتاج إلى عدد إضافي من "الديون المشتركة بضمانات مشتركة"، وإلا "سيفوز الشعبويون، اليوم وغداً وبعد غد، في إيطاليا وإسبانيا أو ربما في فرنسا وأماكن أخرى"، لكنّ "الحقيقة" مختلفة بالكامل، إذ لا يعني ماكرون شيئاً مما قاله ولا ينوي تنفيذ كلامه أصلاً.

Ad

أطلق ماكرون منذ وصوله إلى سدة الرئاسة وعوداً متكررة بإصلاح الاتحاد الأوروبي، في أثينا تعهد في عام 2017 بـ"إعادة بناء" المشروع الأوروبي مع توسيع هامش الديمقراطية فيه، وفي السنة الماضية دعا في رسالة مفتوحة وجّهها إلى "شعب أوروبا" (لم يرغب جميعهم بالضرورة في سماع رأيه) إلى "تجديد" مشروع الاتحاد الأوروبي الذي يشمل نشر قوة حدودية مشتركة وحماية الصناعات الاستراتيجية وتقاسم القواعد الضريبية، وخلال أول خطاب له أمام البرلمان الأوروبي في عام 2018، تعهّد بمحاربة "القومية الأنانية" وبإعادة بناء الاتحاد الأوروبي، يسهل أن نعدّد الخطابات التي تصبّ في الخانة نفسها لكنّ المغزى النهائي واضح: لو كانت الخطابات والمقابلات حول إصلاح الاتحاد الأوروبي كافية لما تجرأ أحد على انتقاد جهود الرئيس الفرنسي.

لكن لا بد من إلحاق الأقوال بالأفعال على أرض الواقع! من باب الإنصاف، لا خطب في تحليلات ماكرون، إذ تبدو منطقة اليورو بأمسّ الحاجة إلى قوة اقتراض مشتركة، أي ما يُسمّى "سندات كورونا" المدعومة من إيطاليا وإسبانيا، لتحمّل تكاليف معالجة الأزمة، ويجب أن تتمكن هذه المنطقة من طباعة الأموال بالطريقة التي تفعلها الولايات المتحدة واليابان وبريطانيا.

لكن حتى الآن، اقتصرت المبادرات على الخطابات الرنانة، ففي آخر أربع سنوات، لم يحصل ولو إصلاح واحد في الاتحاد الأوروبي، بل إنه يتراجع باستمرار وبإصرارٍ من الرئيس الفرنسي في معظم الأوقات، فلم يتردد ماكرون في مهاجمة النظام نتيجة اختيار رئيسه ديمقراطياً، وفضّل أن يعقد اتفاقاً خفياً مع ألمانيا لتعيين أورسولا فون دير لاين التكنوقراطية التي تفتقر إلى التعاطف والكفاءة، كما أنه قام بالمناورات اللازمة لإيصال كريستين لاغارد إلى رئاسة البنك المركزي الأوروبي لمجرّد أنها فرنسية وتجاهل بذلك قلة خبرتها في القطاع المصرفي (حتى أنها ساهمت في انهيار سوق السندات الإيطالي في بداية الأزمة). باختصار، هو أول من يساوم حين تفرض الظروف اتفاقاً يصبّ في مصلحة فرنسا.

سيتكرر الوضع نفسه حتماً في هذه الأزمة المستجدة، ولا شك أن ماكرون سيتكلم بأسلوب مدهش عن التضامن، وحين ترفض ألمانيا سيتراجع عن موقفه على الأرجح مقابل تسهيلات مالية لفرنسا التي تُخطط أصلاً لزيادة واسعة في الإنفاق الحكومي للتكيّف مع الأزمة القائمة وتتجه لتكون ثالث أكبر دولة مدينة في العالم، ونتيجةً لذلك ستصبح بقية أجزاء القارة متروكة.

قد يبدو كلام ماكرون عن التجدد الأوروبي إيجابياً، لكن من المستبعد أن يشاركه الرأي ملايين الناس ممن يوشكون على خسارة وظائفهم في الأنظمة الاقتصادية الإيطالية والإسبانية المنهارة.

*ماثيو لينت