للمرة الأولى منذ بدء الحرب السورية، نَسبت "منظمة حظر الأسلحة الكيماوية" ثلاث هجمات كيماوية مباشرةً إلى قوات بشار الأسد، وأكد مجدداً التقرير الصادر في 8 أبريل عن "فريق التحقيق وتحديد الهوية" المُنشأ حديثاً أن النظام السوري، رغم تعهّده بنزع أسلحته الكيماوية، استمر باستخدامها- بما في ذلك السارين- طوال فترة الصراع، وتوفر النتائج النهائية فرصة للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لمراجعة أوجه القصور في سياساتها، والتعبير بوضوح عن التزامات "الخط الأحمر" فيما يتعلق باستخدام الأسلحة الكيمياوية في سورية، وكذلك استخدام جميع الأدوات المتاحة لزيادة عزلة النظام ومؤيديه ومحاسبتهم.

يلقي تقرير "فريق التحقيق وتحديد الهوية" باللوم مباشرة على الجيش السوري حول ثلاث هجمات بالأسلحة الكيماوية وقعت خلال فترة أسبوع واحد في أواخر مارس 2017، وتقدم النتائج دليلاً على أن النظام لم يقم بإخفاء جزء من مخزونه من الأسلحة الكيماوية خلال عملية نزع السلاح الدولية (2013-2014) فحسب، بل استمر في استخدام هذه الأسلحة المحظورة مع الإفلات من العقاب أيضاً، وهذه هي المرة الأولى التي تنضم فيها "منظمة حظر الأسلحة الكيماوية"، المكلفة بالإشراف على "معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية" وتنفيذها، إلى اللعبة المشحونة دبلوماسياً، والمتعلقة بتحميل المسؤولية.

Ad

وعلى الرغم من أن التقرير شاملٌ وقاطع، فإنه من غير المرجح أن يؤثّر على المسار الاستراتيجي للصراع، أو حتى ملف الأسلحة الكيمياوية، وكانت إدانة النظام راسخة من قبل، وفي الواقع يُظهر البحث الذي قام به كاتِبيْ هذا المقال أن قوات النظام السوري استخدمت الأسلحة الكيماوية أكثر من 340 مرة طوال فترة الحرب، مع وقوع أكثر من 90 في المئة من هذه الحوادث في أعقاب الضوضاء المتعلقة بالخط الأحمر الأميركي والتي أعقبت الهجمات القاتلة في 21 أغسطس 2013، وعملية نزع السلاح اللاحقة.

وكما يتضح من التقرير، وكذلك من التقارير والإفصاح من قبل وسائل الإعلام، أن بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة ودول أخرى كانت على دراية جيدة بمخزون سورية المستمر من الأسلحة الكيماوية والهجمات المستمرة، لكنها تركت الأمر يتبدّد من أجل تجنب الانجرار بصورة أكثر نحو الحرب، وفي الواقع اكتشفت واشنطن وشركاؤها استخدام الأسلحة الكيماوية منذ فترة غير بعيدة تعود إلى مايو 2019، ولكنها ارتأت عدم اتخاذ أي تدابير بهذا الشأن بالرغم من الجحيم الذي كانت تتوعد به آنذاك.

ومن هذا المنطلق، يجب تفسير نتائج "فريق التحقيق وتحديد الهوية" على أنها إدانة أخرى للسياسة الغربية التي لم تبالِ لسنوات باحتواء أسوأ التجاوزات في الحملة العسكرية السورية، ووقعت الهجمات الثلاثة التي تم التحقيق فيها قبل أيام فقط من هجوم الرابع من أبريل عام 2017، الذي أسفر عن سقوط عدد كبير من الضحايا في خان شيخون، والذين أثارت صورهم غضباً عالمياً، مما أسفر في النهاية عن رد عسكري أميركي، ويشير ذلك إلى أنه فيما يتعلق بالسياسة الأميركية، لم يكن الخط الأحمر الحقيقي في سورية يتعلق باستخدام الأسلحة الكيماوية على هذا النحو- الذي لم يتوقف طوال الحرب- بل حول فقدان ماء الوجه الذي قد ينتج عن عدم الرد على حدث بارز بشكل خاص.

التداعيات والردود العسكرية

لقد فشلت الولايات المتحدة والقوى الأوروبية مراراً وتكراراً في تقدير حجم التأثيرات الثانوية المترتبة عن الاستراتيجية الحربية للنظام السوري، فالاستخدام الفعال والمنخفض التكلفة للأسلحة الكيماوية فعلياً في سورية لا يسيء إلى المعايير الدولية فحسب، بل قد يوحي أيضاً للأنظمة الأخرى المنخرطة في الحروب والجهات الفاعلة غير الحكومية بالاقتداء بنهج الأسد، كما فعل تنظيم "الدولة الإسلامية" مراراً وتكراراً.

طوال سنوات، اعتبر المنظّرون عن أسلحة الدمار الشامل أنّ الأسلحة الكيماوية- أو ما يُسمّى "نووي الفقراء"- قد فقدت معظم فائدتها في ساحة المعركة، ومع ذلك يُظهر بحث الكاتِبيْن وجود فائدة تكتيكية واستراتيجية حتى في العوامل التي يتدنى معدل خطورتها المميتة مثل الكلور، وهي فائدة تطغى على أي عقاب دولي قد يترتّب عنها، وقد أثبتت الأسلحة الكيماوية، منذ استخدامها للمرة الأولى في أواخر عام 2012، أنها عنصر صغير بل أساسي في الاستراتيجية الحربية لنظام الأسد، والتي تدور حول حملات عقاب المدنيين وتشريدهم، وتتغلغل العوامل الكيماوية داخل الخنادق والأنفاق والملاجئ.

ولهذا السبب، فإن أي رد عسكري على استخدام الأسلحة الكيمياوية يجب ألا يستهدف مرافق الإنتاج والتخزين فحسب، بل الوحدات السورية المسؤولة عن تنفيذ الهجمات أيضاً، وقد ضمّت هذه الوحدات حتى الآن "الفرقة الجوية الثانية والعشرون"، و"الفرقة المدرعة الرابعة"، و "قوات النمر" وما يرتبط بها من "اللواء 63" مروحيات، وبالإضافة إلى قدرة الضربات العقابية على ردع الاستخدام المستقبلي للأسلحة المحظورة، بإمكانها أيضاً خدمة الهدف الأوسع المتمثل في إيقاف حملة العنف الجماعي والتهجير السورية، دون الدخول في المنحدر الزلق المتمثل بتغيير النظام، وكان هذا صحيحاً بالنسبة لأي هجوم منذ أن أعلنت واشنطن خطها الأحمر في عام 2012، وحتى آخر هجوم مسجل بالقرب من بلدة "كباني" في مايو الماضي، والذي كان سيوفر فرصة مبكرة لردع أحدث هجوم للنظام على محافظة إدلب، وقد أدت تلك الحملة المستمرة منذ ذلك الحين إلى تشريد أكثر من مليون مدني وتُهدد بخلق أزمة لاجئين أخرى لأوروبا، وتمت قيادتها من قبل الوحدات نفسها المحددة في تقرير "فريق التحقيق وتحديد الهوية" وبحوث الكاتِبيْن على أنها مسؤولة عن هجمات الأسلحة الكيماوية.

وإلى جانب العمل العسكري، لدى الدول الغربية عدد من الوسائل الدبلوماسية والقضائية تحت تصرفها، على سبيل المثال، يمكنها استخدام نتائج "فريق التحقيق وتحديد الهوية" لبناء قضية قوية في "المجلس التنفيذي" لـ "منظمة حظر الأسلحة الكيماوية" و"مؤتمر الدولة الطرف" لإصدار عقوبات ضد النظام، وكذلك حرمانه من الشرعية التي تمنحها العضوية غير المؤهلة في المنظمة، ويجب استخدام النتائج أيضاً لحشد الدول الموقعة التي كانت تقف في السابق على الحياد حول الملف السوري لـ "الأسلحة الكيماوية".

طرق التعامل مع السوريين

لقد كان الأوروبيون على وجه الخصوص يبحثون عن طرق لمواصلة تعاملهم مع السوريين، وفي الوقت نفسه إقصاء أوساط الأسد، وعلى الرغم من النجاحات التي حققها النظام في ساحة المعركة، فإن أكثر من ثلث سكان سورية ما قبل الحرب ما زالوا نازحين في أماكن خارجة عن سيطرته، في حين أن حكم النظام في الداخل يبدو مهتزاً، لذلك فإن السياسة المتمحورة حول السوريين أينما كانوا، وليس الموجودين داخل سورية، قد تفتح المجال اللازم لرسم مستقبل البلاد وتقليل خطر انتشار الراديكالية في صفوف شرائح كبيرة من المدنيين الذين تعرّضوا لمعاملة وحشية، ويشعرون أن المجتمع الدولي قد تخلّى عنهم.

وبالتالي، تصبح المساءلة، قبل كل شيء بالنسبة إلى أبشع الجرائم، والبحث عن الحقيقة أدوات سياسية أساسية للدول الأوروبية التي تتطلع إلى تشكيل هيئة سياسية سورية مستقبلية، وإلا فإن تكتيك النظام المؤكد للعنف غير المقيد قد ينجح في إخضاع باقي السكان للإذعان.

بناءً على نتائج "فريق التحقيق وتحديد الهوية"، يجب على بريطانيا وفرنسا ودول أخرى أن تدعو إلى معاقبة النظام السوري وتعليق امتيازاته كعضو كامل العضوية في "منظمة حظر الأسلحة الكيماوية" بما يتماشى مع بند "التدابير الجماعية" بموجب المادة الثانية عشرة من "اتفاقية الأسلحة الكيماوية"، وعلى هذه الدول أيضاً عرض هذه المسألة على "مجلس الأمن الدولي" و"الجمعية العامة للأمم المتحدة"، حيث من المحتمل أن تواجه "فيتو" روسي آخر، وإذا كان من المستحيل تحقيق التدابير الجماعية (وهو أمر مُرجّح)، فيجب على السلطات الوطنية إصدار عقوبات إضافية خاصة بها، وفي كلتا الحالتين ستعطي المساعدة الأميركية وزناً كبيراً للإجراءات الأوروبية.

يجب على الحكومات نفسها، بالتنسيق مع الشركاء الإقليميين مثل تركيا وإسرائيل، أن تكرر خطوطها الحمراء وتوضحها فيما يتعلق باستخدام الأسلحة الكيماوية في سورية وتتابعها بسرعة وثبات في حال حدوث أي انتهاكات، وعند اختيار أهداف الضربات التأديبية، يجب على المسؤولين النظر في السياق الأوسع نطاقاً للحرب، وضرب القوات الجوية السورية وتشكيلات الخطوط الأمامية المسؤولة عن الهجمات بالإضافة إلى مرافق الإنتاج والتخزين.

على الحكومات أن تكثّف دعمها لإمكانات الرد والحد من المخاطر على الأرض في شمال غرب سورية من خلال مساعدة المبادرات الإنسانية المحلية والمجتمع المدني، وتشمل الإجراءات المفيدة إرسال معدات واقية وإمدادات طبية إلى الدفاع المدني السوري، المعروف أيضاً بـ"الخوذ البيضاء"، والجمعيات الخيرية الطبية العاملة على الأرض؛ وتوفير الدراية الفنية بشأن جمع الأدلة وحفظها؛ وتعزيز أنظمة الإنذار المبكر على غرار "مرصد سورية".

وأخيراً يجب على الحكومات الأوروبية مواصلة تعزيز قضية المساءلة عبر القنوات المتعددة الأطراف والقنوات الوطنية، وينبغي تقديم تمويل إضافي إلى "فريق التحقيق وتحديد الهوية"، و"الآلية الدولية المحايدة والمستقلة" التابعة للأمم المتحدة، و"بعثة تقصي الحقائق" التابعة لـ"منظمة حظر الأسلحة الكيماوية" للتعجيل بعملهم وتوسيع نطاقه، ويمكن تقديم معلومات استخبارية وطنية بشأن المخزونات والمرافق المخفية بصورة أكثر اتساقاً لدعم عمل "فريق تقييم الإعلان" الخاص بـ"منظمة حظر الأسلحة الكيماوية"، وبالمثل، فإن رفع السرية عن المعلومات المتعلقة بسلاسل القيادة يمكن أن يُكمّل النسخ العامة لتقرير "فريق التحقيق وتحديد الهوية" وأن يساعد منظمات المجتمع المدني على متابعة المحاكمات في المحاكم الوطنية الخاضعة للولاية القضائية العالمية.

*توبياس شنايدر وتيريزا لوتكيفند