تعد الاستدانة العامة أداة مهمة من أدوات السياسة المالية في الاقتصاد الكلي، للتعامل مع فجوة العجز في الموازنة العامة للدولة؛ لذلك صدر القانون 50 لسنة 1987، الذي أجاز للحكومة، خلال عشر سنوات من تاريخه، الاستدانة بمبلغ لا يتجاوز 10 مليارات دينار، لمدة أقصاها عشر سنوات.

وفي عام 2009 صدر القانون رقم 3، الذي أجاز للدولة الاقتراض لمدة عشرين عاماً، اعتبارا من 1997. وبذلك انتهت صلاحية الإذن للدولة بالاستدانة في عام 2017. وبالتالي لا تستطيع الحكومة الاقتراض في الوقت الراهن، مع انتهاء صلاحيتها لذلك، حسب القانون.

Ad

يذكر أن الكويت توجهت إلى السوق العالمي للاقتراض مرتين؛ كانت المرة الأولى بعد التحرير مباشرة، باقتراض 5.5 مليارات دولار من السوق العالمي، ثم قامت بسدادها مبكرا قبل موعد الاستحقاق. هذه العملية عزّزت سمعة ومكانة الكويت المالية، وثقة المؤسسات المالية العالمية بها.

في مارس 2017 أصدرت الكويت سندات سيادية بقيمة 7.4 مليارات دينار، منها 2.4 مليار طرحت في السوق العالمي تم تسعيرها بأسعار ممتازة جداً، وكانت الأفضل بين القروض السيادية لدول المنطقة، علماً بأن الطلب عليها تجاوز 3 أضعاف حجم الإصدار، ويعود ذلك إلى تصنيف الكويت الائتماني العالي، ومركزها المالي، وسمعتها في الأسواق المالية العالمية.

وقد قامت الكويت بسداد جزء من قيمة السندات المصدرة محلياً، بدءاً من عام 2018، القيمة المتبقية منها نحو 4.1 مليارات دينار تشمل 2.4 مليار دينار لجهات عالمية.

ومن الجدير بالذكر أن هذا الإصدار خلا من الصكوك ومن أية سندات تتجاوز آجالها 10 أعوام، بسبب عدم سماح القانون السابق بذلك.

قانون الصكوك

وبالإضافة الى مقترح "قانون الدين العام"، تقدمت الحكومة أيضا بقانون الصكوك، كي تتمكن من رهن الأصول الحكومية، الذي لا يسمح به القانون حالياً، ويسهل عليها إصدار صكوك متوافقة مع الشريعة الإسلامية.

ويتضمن مقترح القانون الجديد مد آجال استحقاق السندات إلى فترات تصل الى 30 عاماً، مما يعد مهماً جداً لمزيد من المرونة. ويرفع القانون المقترح سقف الاقتراض إلى 20 مليار دينار، أي ضعف سقف الاقتراض في القانون السابق، الذي انتهت صلاحيته.

وبالإضافة إلى كون "الدين العام" أداة مهمة من أدوات السياسة المالية، فقد أثار اهتمام وكالات التصنيف العالمية غياب قانون يسمح للحكومة بالاستدانة، كجزء من الخيارات المتاحة لتمويل عجز الموازنة العامة.

إن استمرار غياب القانون، وعدم البدء في حزمة الإصلاحات المالية الأخرى المطلوبة للتعامل مع العجز سيؤثر سلبا على تصنيف الكويت الائتماني، الذي شهد فعلاً تخفيضاً من قبل وكالة ستاندرد آند بورز من AA إلى AA-، بينما وضعت وكالة موديز تصنيف الكويت تحت المراجعة، مع احتمال التخفيض. وعلى الرغم من ذلك، مازالت الكويت تتمع بتصنيف ائتماني ممتاز، علينا ألا نخسره.

هناك عدة أسباب لأهمية المحافظة على التصنيف العالي، منها: 1) أنه يؤثر على تكلفة الاقتراض (سعر الفائدة)، فكلما ارتفع التصنيف قلت التكلفة. 2) هناك علاقة وثيقة بين تصنيف الدولة السيادي وتصنيفات المؤسسات الاقتصادية المحلية، وهذا واضح من خفض وكالة ستاندرد آند بورز تصنيفات عدد من البنوك في الكويت.

ولا يخفى على المهتمين بأسواق المال أهمية إدراج السندات السيادية في سوق المال، إذا ما أردنا أن تكون الكويت مركزاً مالياً عالمياً.

ومن المتوقع أن تستمر أسعار النفط في مستوياتها الحالية المنخفضة، مما سيوثر سلباً على الإيرادات النفطية، خاصة مع الاتفاق الأخير بين الدول المنتجة للنفط، لخفض المزيد من الإنتاج، ومن المتوقع أن تستمر الأجور والرواتب في الارتفاع، والدعوم بدرجة أقل، وبالتالي ارتفاع المصاريف الحكومية، ومن ثم تنامي عجز الموازنة العامة.

وعليه، فإنه حسب توقعات وزارة المالية ستبلغ قيمة العجز 9 مليارات دينار، قبل انخفاض أسعار وإنتاج النفط وصدمة جائحة "كورونا المستجد"، وحتماً ستكون أكثر من ذلك بعد الصدمة. علما بأن مجموع العجز الختامي بلغ نحو 21.3 مليار دينار، في الموازنات الخمس الماضية (2014/2015 إلى 2018/2019)، وتمت تغطية جزء منه من الاحتياطي العام. ويقدر صندوق النقد الدولي أن يصل العجز التراكمي في الميزانية إلى 55 مليار دينار، خلال ست سنوات (حسب أسعار النفط للفترة السابقة لجائحة الكورونا)، إذا استمر الوضع كما هو عليه.

الخيارات المتاحة

السؤال الملح هو: كيف ستتعامل الكويت مع هذا العجز؟

إن الخيارات المتاحة ثلاثة، هي: الاستدانة أو السحب من الاحتياطي العام واحتياطي الأجيال القادمة، أما الخيار الثالث فهو الإصلاحات المالية والاقتصادية لتنويع الإيرادات الحكومية. ويطرح البعض سحب الأرباح المرحّلة لمؤسسة البترول، لتغطية العجز، وباعتقادي أن هذا الإجراء يفتقر إلى الصواب ويضر عمل قطاع منتج ومدرّ للدخل، وهو القطاع النفطي، ويؤثر على استثماراته لزيادة الإنتاج. ويناقض ما ينادي به هؤلاء من ضرورة توجيه الأموال الى مشاريع منتجة، بدل الصرف الاستهلاكي.

إن خيار السحب من الاحتياطي العام غير مُجدٍ على المدى المتوسط، فيتوقع صندوق النقد الدولي "أن تنفد كل الأصول المتاحة للاستخدام في الاحتياطي العام، في أقل من عامين"، فماذا بعد ذلك؟

أما بالنسبة إلى الخيارات المتاحة لتعظيم الإيرادات غير النفطية، وخفض المصاريف، فهذا يتطلب قرارات جريئة غير شعبية وصعبة التطبيق، وبعضها يحتاج إلى مدة طويلة لتحقيقه.

فالضرائب والرسوم هي إحدى سبل زيادة الإيرادات غير النفطية، لكنها تواجه رفضا شعبيا كبيرا، مثلما شاهدنا مع ضريبة القيمة المضافة المطبقة في دول الخليج، والتي لم تطبق عندنا إلى الآن، بسبب الرفض الشعبي لها. ولا يقل صعوبةً عن ذلك بيعُ الأصول الحكومية عن طريق الخصخصة.

فضلاً عن صعوبة خفض نمو بند الرواتب بسبب عدم إمكانية المس بالرواتب والنمو الطبيعي في عدد الكويتيين الجدد الملتحقين بسوق العمل، وربما أثرت صدمة جائحة الكورونا المستجد على توجه الكويتيين إلى العمل في القطاع الخاص مستقبلاً، مما سيزيد العبء على القطاع الحكومي.

إصلاحات ضرورية

وفي حين تواجه الحكومة صعوبة فيما ورد أعلاه، فإنه يمكنها البدء في بعض الإصلاحات التي لا تتطلب موافقة مجلس الأمة، مثل ضرورة تعزيز تحصيل الايرادات العامة، وترشيد الإنفاق الرأسمالي، على ألا يؤثر على مشاريع البنية التحتية والمشاريع التي تحقق موارد للدولة؛ مثل مشاريع القطاع النفطي وزيادة كفاءة الجهاز الحكومي والإدارة الرشيدة، وعدم الالتفاف إلى المطالب الشعبوية التي ترهق الميزانية، مثل إسقاط القروض والهبات.

إن هذه الإصلاحات تحتاج إلى وقت ليس بالقصير لتظهر نتائجها، لهذا فإن خيار الاستدانة أو الدين العام يظل خياراً مهما، لابد من الاستعداد له. ويجب أن ننظر الى جانبي التكلفة والمنفعة على المدى الطويل من تقييم أي الخيارات أفضل لنا: هل هو السحب من الاحتياطيات العامة أم الاستدانة؟ وليس هناك ضرر من الأخذ بالخيارين معاً.

ولا يختلف اثنان على حاجتنا إلى القيام بإصلاحات مالية وإعادة هيكلة الاقتصاد ووقف الهدر ومحاربة الفساد... إلخ. إلا أن هذا يجب ألا يؤخرنا في إصدار "قانون الدين العام"، كي تتمكن الدولة من التحرك لما هو أفضل للكويت، إذا ما اتجهنا الى هذا الخيار. ومن الأفضل بكثير أن يكون تصنيفنا الائتماني قوياً مثل ما هو وضعنا الآن، معززاً بوجود وفر في الاحتياطي العام حين نطرق أبواب أسواق المال العالمية، لإصدار سندات دين عام جديدة. يجب علينا ألا ننتظر كي لا نضطر إلى إصلاح السقف في يوم ممطر.

* اقتصادي كويتي