يتساءَل القارئ: لماذا اختار محمّد المستنير لكتابه عنوان "بالمقلوب"؟ ولكن عندما يتجاوز القارئ العنوان ليدخل إلى النص، ويرافق سائق التاكسي في نهاراته وحواراته مع زبائنه، يكتشف عبر مشاهداته وأحاديثه، أنّ مضمون الكتاب الذي يحمل في ظاهره الهزل والتفكُّه، ينتقد في باطنه بسخرية مظاهر الزيف الاجتماعيّ، ويبرز الفروقات الثقافيّة واختلاف الاهتمامات بين بني البشر.

استهلّ محمّد المستنير كتابه بمقدمة جاء فيها: "انتحلتُ شخصية أُخرى في هيئة شابّ مكافحٍ يكسب قوته من سيارة الأجرة التي اشتراها. ثرثار وفضوليّ مع الزبائن، يكاد لا يمرّ يوم إلّا وله قصّة مع أحدهم. أتجوّل في كلّ الطرقات وبين كلّ الأحياء في العاصمة الرياض، لذا قابلت أنماطاً مختلفة من المجتمع، ولأنّي – عادة- ما أكون على عجلة من أمري، كنت أرى الأشياء بالمقلوب وأحياناً كنت محقًّا".

Ad

يناقش "بالمقلوب" بعض المظاهر الاجتماعيَّة نقاشاً عفويّاً معتمداً السُّخرية، وتتناول قصصه أحداثاً من وقائع المجتمع ممزوجة بخيال الكاتب. فلكلّ زبون قصَّة مختلفة، ولكلّ قصة عنوان، وما على القارئ سوى استنتاج الهدف من بين السطور.

مشجّع الغفلة:

في يوم مجهد شاقّ قرَّرت العودة إلى منزلي، وإذا بشاب صبغ شعره بلونَين مختلفَين، مرتدياً ملابس رياضيّة لفريقه، يستوقفني طالباً منّي إيصاله إلى ملعب الملك فهد الدولي.

كانت زحمة الطريق شديدة، فشكرني لقبولي إيصاله، وشرع يقصُّ عليّ أخباراً مثيرة جرت على أرض الملاعب في السعوديَّة، وأنّه المشجّع الوفي لناديه، وقد أطلقوا عليه لقب "مشجّع الغفلة".

وبينما كان مسترسلاً في حديثه أريته صورة لي مع نجم فريقه، فابتسم ودعاني إلى حضور المباراة، وعرض عليَّ دفع أتعابي، بالإضافة إلى ثمن البطاقة، شرط أن أُعيده إلى بيته بعد انتهاء المباراة.

صعدنا إلى أعلى المدرَّج، وما إن بدأت المباراة حتى زاد صخب الجماهير، فعلى الصُّراخ والسُّباب تارة، وارتفعت الأيدي طوراً احتجاجاً وذمّاً في الحَكَم ووَلَده ووِلده ومَن وَلَد. وانتهت المباراة بفوز فريق صديقي الذي كانت فرحته خياليَّة، فأوصلته إلى باب منزله، حيث كان ينتظره شابّ حزين أغرقتِ الدموعُ عينَيه، وكأنَّه فقَدَ أحد والدَيه.

أعطاني صديقي المبلغ المتفق عليه، وهممتُ بالذهاب، لكن صراخهما أعادني لأفض خلافهما، فنظر صديقي إلي وقال:

-ما عليك هذا أخوي الفاشل... مهزوم فريقه اليوم ويبغي يهاوش.

اطمأنّ قلبي وغادرت المكان، وفي صباح اليوم التالي قرأت في إحدى الصحف الرياضيَّة عنواناً بالخط العريض: "المكافآت تصل إلى 300 ألف ريال لكلّ لاعب بمناسبة الحصول على الكأس". وفي آخر الخبر قرأت في زاوية منه: "شابّ يقتل أخاه بعد هزيمة فريقه".

العبرة التي أراد محمَّد المستنير أن يوصلها للقارئ واضحة جدّاً، فالاختلاف على أمر سطحيّ لا تأثير له في أولويّات حياتنا أفقد الأخّ صوابَه فقتل شقيقه!

موعد مع الحُبّ:

أقفلت جميع محالّ المجمَّع التّجاريّ، وفي الخارج تكاد كلّ سيارة تلتحم بمؤخّرة السيّارة التي أمامها بينما أنظر يمنة ويُسرة عن زبون، وإذا برجلٍ يحمل كيساً لإحدى الماركات العالميَّة يواصل خطواته نحوي. صعد إلى السيّارة بكلّ أناقته فسبقته رائحة عطره الفوّاحة، ودلّني على الوجهة التي يقصدها فحبيبته بانتظاره وهو يريد اصطحابها من منزلها.

وفي طريقنا توقّفناعند إشارة مرور فأخرج من جيبه بعض النقود ومدّ يده من النافذة وأعطاها لعامل النظافة. اخترت من تناقضاته العجيبة، إذ يتصدَّق وهو في طريقه إلى عمل منكر مع حبيبته التي سيصطحبها إلى أحد المطاعم.

تكلَّمنا عن الكلمة الحلوة وعن العطاء، وواصل حديثه قائلاً:

-لماذا نشعر بالخجل من الحُبّ؟ نكتم في قلوبنا كلّ الأشياء الجميلة والأحاسيس الصادقة، نعيش مرّة واحدة، وقد نفقد مَن نحب من دون أن نخبره كم نحبُّه!

ثمّ انتقل إلى الكلام عن هذه الحبيبة التي أتى من منطقة أُخرى ليقابلها في العاصمة، وأخرج من الكيس ساعة نسائيّة باهظة الثمن اشتراها لمَن ملكت فؤاده. وعاد فطلب مني التوقُّف عند محل زهور اشترى منه وردة حمراء وضعها وسط الكيس.

بدأت أُفكّر في تلك التي سلبته قلبه وسحرت عقله. وبعد دقائق وصلنا إلى منزلها.

ركبت في المقعد الخلفي امرأة محتشمة، فلم يعد بإمكاني مواصلة الحديث معه في الموضوع عينه بعد أن انضمت إلينا حبيبته، وتغيّر الموضوع، فتكلمنا عن الطقس والبورصة والتعليم قبل أن تتوقَّف عجلات سيارتي أمام مطعم شعبي اختاره صديقي.

نزل من السيّارة فأعطاني اجرتي وشكرني، ثمّ فتح الباب الخلفي وقال بصوت رقيق:

-تفضلي يمّه، وصلنا!

ورأيت الودّ والوفاء في تصرّفاته، وشعرت بالامتنان والرضا في ردّ فعل والدته التي لم يكفّ لسانها في الدُّعاء له.

تأثّرتُ كثيراً وأخرجت هاتفي الخلوي، وطلبت رقم أُمّي وكتبت لها رسالة مقتضبة: أُحبُّكِ يا أُمّي!

لكلّ قصّة عبرة:

دوّن محمّد المستنير في كتابه ما كان يجري بينه وبين السّائق وزبائنه من حوارات تحمل في طياتها عِبَراً من صميم حياتنا اليومية، ولو ألبسها أحياناً بعضاً من خياله المرهف. وفي خاتمة كلّ قصّة استشهد بقول مأثور لأحد الحكماء أو ببيت شعر يدلّ مضمونه على فحوى القصّة.