العناوين الرئيسة مروعة: نقص المعدات الحيوية يجبر الأطباء على اتخاذ قرارات أشبه بتلك التي تتخذ في ساحة المعركة حول من يعيش ومن يموت، طوابير طويلة من المرضى الذين ينتظرون عبثا إجراء الاختبار أو الحصول على سرير في مستشفى، شركات ومتاجر وحانات ومطاعم خاوية على عروشها تجعل الاقتصادات المحلية تتوقف عن العمل تماما في مختلف أنحاء العالم، حسابات كئيبة لتحديد أي البلدان هي الأشد تضررا بفيروس كورونا (COVID-19)، حيث تتقدم الولايات المتحدة القائمة الآن بأشواط، بعد أن سجلت ما يقرب من 61 ألف حالة مؤكدة أكثر من الصين، موطن الفاشية الأصلي.

في أوروبا، كانت الجائحة عنيفة بشكل خاص في إيطاليا، التي ظلت مغلقة على المستوى الوطني منذ التاسع من مارس في محاولة لإبطاء انتشار الفيروس، حتى الثلاثين من مارس سجلت إيطاليا ما يقرب من 98 ألف حالة إصابة مؤكدة بمرض فيروس كورونا 2019، وحتى الآن، توفي بسبب المرض أكثر من 10700 إيطالي أغلبهم من منطقة لومباردي في الشمال، وتُـعَد ميلانو، العاصمة الإقليمية، أكثر من مجرد دعامة أساسية للاقتصاد في إيطاليا، كما ترتبط هذه المدينة التي كانت تعج ذات يوم بالحركة ارتباطا وثيقا بالمشروع الأوروبي وتشكل محركا بالغ الأهمية للاقتصاد الأوروبي ككل.

Ad

مع ذلك وبرغم ارتفاع حصيلة الموتى، وفي ظل معدلات انتقال في المنطقة أعلى من أي مكان آخر في القارة، كان الاتحاد الأوروبي- وبلدانه الأعضاء فرادى- بطيئا في التقدم على أي نحو حقيقي وإظهار التضامن مع الجارة المريضة، بدلا من ذلك، أغلقت دول الاتحاد الأوروبي حدودها وانغلقت على ذاتها، وتفاقمت محنة إيطاليا بسبب إغلاق الحدود، والذي أدى إلى قطع الإمدادات والمعدات الطبية التي تحتاج إليها بشدة.

انخرطت الحكومات في مشاحنات تافهة، وبدت أكثر انشغالا بميزتها الاقتصادية الخاصة، حتى أن ممثلي بعض دول شمال أوروبا خرجوا يتحدون القرارات الاقتصادية التي اتخذتها إيطاليا مؤخرا، ويعربون عن اهتمامهم في المقام الأول بمعرفة كيف قد تتمكن إيطاليا من سداد ديونها وليس حصيلة الموتى والانكماش الاقتصادي.

ونتيجة لهذا، في وقت حيث تواجه القارة، بل العالم بأسره، أزمات ذات أبعاد تاريخية في ما يتصل بالصحة العامة والاقتصاد، أصبح البيت الأوروبي منقسما وعُرضة للتفسخ، فإذا كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سببا لتوحيد الدول السبع والعشرين المتبقية والقضاء على شبح الخروج من الساحة الأوروبية، فإن فيروس كورونا أعاد ذلك الشبح إلى الأجندة.

إن الاتحاد الأوروبي يتحمل المسؤولية تجاه بلدانه وشعوبها عن استخدام كل الأدوات المالية المتاحة تحت تصرفه، أو إنشاء أدوات جديدة، لضمان تمكين إيطاليا والاتحاد الأوروبي ككل من الصمود تحت وطأة هذه الأزمة، والتعافي منها في نهاية المطاف، وهذا يستلزم التخلي عن الاعتماد المعتاد على نموذج حكم عفا عليه الزمن تأسس في غياب أي موارد مالية مشتركة في اتحاد نقدي، وإذا فشلت إيطاليا، فإن الثمن الذي سيدفعه الاقتصاد الأوروبي- بل المشروع الأوروبي ذاته- سيكون أعلى كثيرا من ثمن انتهاك قاعدة مالية أو أخرى في وقت تحيط به مخاطر جسيمة.

قبل انعقاد قمة المجلس الأوروبي الافتراضية الأسبوع الماضي، دعت مجموعة من تسع دول أوروبية، بما في ذلك دول جنوبية مثل البرتغال وسلوفينيا، إلى إصدار سندات اليورو وتبادل الديون المشتركة، وكلفت القمة المؤسسات المالية الأوروبية بتقديم مقترحات، ربما لتخفيف الضغوط على رؤساء الحكومات فرادى (أغلبهم منشغلون بالمعارضة الداخلية). في الوقت ذاته، انتهزت بعض الشخصيات السياسية الأكثر استبدادا وتطرفا في إيطاليا الفرصة للاحتشاد ضد الاتحاد الأوروبي وطرح خروج إيطاليا من اليورو والاتحاد ذاته على الطاولة.

مع انسحاب الولايات المتحدة في ظل إدارتها الحالية من التحالف عبر الأطلسي الذي تشكل بعد الحرب، سنحت الفرصة للاتحاد الأوروبي لإثبات جدارته بالتزامه المعلن بالقيم والحقوق والتعاون المتعدد الأطراف، وتأكيد ذاته بوصفه زعيما عالميا، لكنه لم يرق إلى مستوى التحدي، ورغم أن مستقبل أوروبا يبدو اليوم قاتما، فلم يفت الأوان بعد لتغيير المسار من قِبَل المؤسسات والحكومات الأوروبية، وإن الاتحاد الأوروبي لا يملك تَـرَف خسارة إيطاليا أو المرور عبر الأزمة دون تقديم استجابة حقيقية، وسوف تعاني بلدان الكتلة واقتصاداتها كافة نتيجة لذلك.

شَـهِـد والدي، جورج سورس، بعض أبشع الجرائم في القرن الماضي، وخرج من تلك التجربة بإيمان عميق وثابت بضرورة المشروع الأوروبي، وأنا فخور بسجله الطويل في استخدام مؤسساته الخيرية للترويج لغد أفضل من أجل أوروبا والعالم.

لهذا السبب، لا ينبغي أن يكون من المفاجئ أن تتدخل المنظمة التي أسسها، مؤسسات المجتمع المفتوح، لمساعدة إيطاليا في هذه اللحظة الحرجة بالتعهد بالتبرع بمبلغ مليون يورو لمدينة ميلانو لدعم العمل الشاق في مساعدة أكثر أهلها ضعفا وإعادة بناء اقتصادها، وصحتها، وروحها في الأشهر المقبلة.

من المؤكد أن بعض بلدان الاتحاد الأوروبي- مع بعض التأخير- أرسلت أيضا إمدادات طبية، كما تبرع العديد من الإيطاليين للجهود الوطنية المبذولة لمواجهة الأزمة، وبعد بضعة أيام فقط من الحصول على الموافقة لبدء محادثات الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، أبدت ألبانيا روح التضامن الأوروبي الحقيقية من خلال إرسال ثلاثين فريقا من الأطباء إلى شمال إيطاليا. كلي أمل الآن في أن يقتدي آخرون كثيرون بهذا المثال وأن يقدموا يد العون للمناطق الأشد تضررا بجائحة مرض فيروس كورونا 2019، الحق أن يد العون هذه، التي تأتي في أعقاب هدية مماثلة لمدينة بودابست، تأتي ضمن سلسلة من التدخلات التي ستطلقها مؤسسات المجتمع المفتوح في الأيام المقبلة في الاستجابة لهذه الأزمة.

* أليكس سوروس

* مؤسس مؤسسة ألكسندر سوروس، التي تكرم المدافعين عن البيئة بجائزة سنوية.

«بروجيكت سنديكيت، 2020»بالاتفاق مع «الجريدة»