بعد عقود من التجاهل ومراعاة الخواطر وتفضيل المصلحة الشخصية على حساب الوطن، يطفو مجدداً ملف العمالة السائبة على الساحة الساخنة الملبدة بالتداعيات القاتمة لفيروس كورونا، ليشكل هذه المرة خطراً داهماً على استقرار البلاد وصمودها في الظروف الصعبة العصيبة الراهنة، لاسيما بعدما لم يعد لتلك العمالة مجال لكسب رزقها بعد توقف أعمالها.

ظللنا نُحذر من هذه القضية مراراً، كما حذر منها أغلب النواب الشرفاء، بل نبه إليها كثير من وزراء الشؤون المتعاقبين، ونددنا كما نددوا، بهؤلاء المتاجرين بالإقامات، وتعالت الأصوات بضرورة التصدي لهم لما تمثله العمالة السائبة من خطر على أمن البلاد والعباد.

Ad

نحن الآن في لحظة فاصلة تقتضي منا الحسم وألا ندفن رؤوسنا في الرمال، بل علينا أن نواجه القضية، وإلا دخلنا خلال أسابيع أو أشهر، إذا استمر الوضع على ما هو عليه، في مجهول لا يعلمه إلا الله، المتسبب فيه هو بعض الأنانيين من أبناء هذا البلد الطيب الذي امتدت أياديه البيضاء إلى شتى أنحاء الأرض، ولقب أميره بقائد العمل الإنساني!

كيف لكويت الإنسانية أن يتاجر بعض أبنائها في عمال مساكين يأتي أغلبهم إلى الكويت، بعدما يكون قد باع ما لديه من متاع أو أرض لدفع ثمن "عدم الممانعة"، فلا يجد عملاً لدى الشركة التي أتى عليها، لأنها صورية، فيتركه صاحبها في متاهة البحث عن مصدر للرزق، ثم يفرض عليه "إتاوة" سنوية لتجديد إقامته... أليس هذا ما يحصل؟!

هذا العامل المسكين الذي يأتي من بلاده وفي مخيلته حلم الكويت وما سيحققه فيها لمستقبله، اليوم وفي ظل "كورونا" والاحتياطات التي تنادي بها وزارة الصحة، لا يجد قوت يومه، ويجلس إلى جانب عدد كبير من العمال في غرفة واحدة مكتظة بأنفاسهم وأسرَّتهم وأغراضهم، ثم يخرج مع الصباح علَّه يجد فرصة عمل ليشتري بأجرها طعاماً، فيحتك بمن يحتك بهم من نظرائه المساكين المقهورين، وسط غياب تام لمن مصوا دماءهم... في مشهد حزين يلقي علينا جميعاً، حكومة وشعباً، وفقاً لما أكدته غرفة التجارة في بيانها الأخير، مسؤولية إنسانية وأخلاقية وأمنية، بضرورة النظر إلى هؤلاء العمال «المياومين» الذين قد لا يجدون قوت يومهم إن توقفوا يوماً عن العمل.

وبعيداً عن الماضي وأوجاعه، لنتساءل: أليس هذا هو الوقت المناسب للقضاء على تلك التجارة المشؤومة التي تعبث بمصائر الوطن والبشر؟ أليس هذا وقت محاسبة هذه الشركات الصورية التي لا هَمَّ لها إلا مصلحتها على حساب الوطن وتركيبته السكانية؟ لماذا لا نلزم تلك الشركات المتاجرة بالعمال بأن تتولى أمرهم وتنفق عليهم في مثل هذه الظروف ثم تتكفل بمصروفات مغادرتهم إلى بلادهم إن كانت لا تحتاج إليهم؟ على أن تكون لنا وقفة أخرى بعد انتهاء الأزمة بتوقيع أشد العقوبات على أصحابها الذين أصبحوا دولة داخل الدولة، بعدما خرجوا من كل معركة تنادي بمحاسبتهم فائزين، لأنهم فوق القانون وفوق من ينادون بمحاسبتهم، بما لهم من علاقات ونفوذ.

هذا هو نداؤنا قبل أن تتطور الأمور إلى ما لا تحمد عقباه، لنعالج وباءً استشرى في البلاد، قبل أن نسمع عن كورونا، هو وباء الأنانية والتكسب على حساب الوطن، مع كشف المسؤولين الذين يتخاذلون ويتقاعسون عن اتخاذ أي إجراءات بحق تجار الإقامات، وإلا فستتكرر المشكلة بأشكال عديدة وصور أخطر، وحينئذ لن ينفع الندم.