يتذكر الجميع "الربيع العربي" باعتباره أسوأ حدث سياسي زعزع الشرق الأوسط منذ سقوط السلطنة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، ونتيجة لذلك الحدث، سقط رؤساء كان يُفترض أن يبقوا في مناصبهم طوال حياتهم، وغرقت ثلاثة بلدان في حروب أهلية، وانقلب التوازن المقبول بين الشعوب وحكوماتها رأساً على عقب، ولو لفترة معينة.

اليوم، يوشك الشرق الأوسط على مواجهة مجموعة أكبر من الاضطرابات، ومن المتوقع أن تهزّ عمق المنطقة، وبغض النظر عن الجدل السائد في الولايات المتحدة بشأن حجم الانتباه الذي يجب أن تعطيه للشرق الأوسط، لا شك في أن هذه التقلبات ستنعكس على مجموعة واسعة من المصالح الأمنية الأميركية في تلك المنطقة وحول العالم.

Ad

تواجه المنطقة سلسلة من التحديات المتلاحقة وقد تُزعزع الحكومات الصديقة والعدائية على حد سواء وتخرّب الاقتصادات وتُدمّر الشعوب، لا مفر من أن تتغير ملامح المنطقة بعد تجاوز هذه المرحلة مقارنةً بما كانت عليه في آخر نصف قرن تقريباً.

حتى قبل انتشار فيروس "كوفيد-19" في الشرق الأوسط، كانت المنطقة تعيش اضطراباً سياسياً هائلاً، إذ غرقت اليمن وليبيا وسورية في حروب أهلية منذ أحداث الربيع العربي، ولا تزال تلك الحروب محتدمة حتى الآن، ونزل الجزائريون إلى الشوارع في فبراير 2019 للإطاحة بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ثم تنحى هذا الأخير في أبريل الماضي، ومع ذلك تستمر التظاهرات الحاشدة حتى اليوم. كذلك، بدأت احتجاجات واسعة في لبنان والعراق في أكتوبر الماضي واستمرت في معظمها، أما مصر وإيران، فاستعملتا عدداً هائلاً من قوى الأمن لقمع الاحتجاجات في شهرَي سبتمبر ونوفمبر على التوالي، لكن الوضع السياسي في البلدين لا يزال غير مستقر. في ظل هذا الوضع الهش، تجد المنطقة نفسها اليوم أمام أزمة صحية خطيرة، إذ تواجه إيران كارثة شاملة ومتصاعدة، ومن المعروف أن السفر بين إيران والعراق ولبنان وسورية مكثّف، لذا لا مفر من انتشار الوباء في تلك البلدان. وفي مصر، التقط أكثر من 12 سائحاً وعنصراً من طاقم سفينة سياحية على نهر النيل الفيروس، بينما أعلنت الحكومة عن تسجيل أقل من 200 حالة، وأنكرت معلومات صحافي ذَكَر أن التقديرات الكندية تشير إلى تسجيل 19 ألف إصابة. بغض النظر عن الرقم الصحيح، تبقى مصر بلداً فيه 100 مليون نسمة، ويعاني سوء الخدمات في قطاع الصحة العامة، كذلك، يُصاب حوالى 10 في المئة من الشعب المصري بالتهاب الكبد "C" بسبب قلة النظافة، تزامناً مع إطلاق حملة تلقيح منذ عقود لحماية المصريين من البلهارسيا.

ولا داعي للتذكير بأن ملايين اللاجئين والنازحين داخل بلدانهم في المنطقة، بدءاً من ليبيا وصولاً إلى سورية واليمن، يعانون الجوع والبرد ويواجهون جميع أنواع المخاطر.

إلى جانب أزمة الصحة العامة المرتقبة، تبرز أيضاً أزمة مالية ضخمة، فبما أن وباء «كوفيد- 19» خفّض الطلب العالمي على النفط، فقد قادت بلدان من أكبر منتجي النفط في العالم (روسيا والمملكة العربية السعودية) جهوداً دولية لتخفيض حجم الإمدادات منعاً لانهيار الأسعار، لكن البلدين عجزا عن التوصل إلى اتفاق بهذا الشأن، فدخلا في جولة من المشاحنات؛ إذ أصرت السعودية على زيادة الإنتاج وإغراق السوق، بينما أصرت روسيا على زيادة الإنتاج بدورها. أدت هذه الحرب إلى تراجع أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2003. ورغم زيادة الكميات، تتلقى روسيا والسعودية اليوم عائدات نفطية متدنية بدرجة غير مسبوقة، كذلك، تشهد بلدان مُنتِجة أخرى، على غرار إيران والعراق والإمارات العربية المتحدة والكويت، انهياراً حاداً في عائداتها الحكومية، ويعني ضعف الطلب وارتفاع كميات النفط المُخزّنة أن الأسعار ستزيد ببطء حين ترتفع مجدداً. لم تتأثر الصادرات النفطية وحدها بهذا الوضع، إذ يعمد عدد كبير من أفقر بلدان الشرق الأوسط إلى تصدير اليد العاملة، ففي مصر والأردن ولبنان، تشكّل الأجور التي يرسلها المواطنون العاملون في الخارج حوالى 10 في المئة من اقتصاد بلدانهم، لكن في ظل تراجع أسعار النفط، من المتوقع أن تنهار تلك التحويلات ويعود العمّال الماهرون إلى بلدهم ويصبحوا عاطلين عن العمل في أسواق لا تستطيع إعالتهم.

فوق هذه الكوارث كلها، سينهار قطاع السياحة في المنطقة غداة الأزمة العالمية، لأن السياحة ترتكز على عناصر متعددة؛ ففي السياحة الترفيهية التي ساهمت في تعويم الاقتصاد في مصر وتونس والمغرب ولبنان ستتوقف العطلات على الشواطئ والرحلات البحرية. ثانياً، السياحة الدينية: يتدفق الحجاج إلى الأماكن المقدسة في المملكة العربية السعودية وإيران والعراق منذ قرون، لكن ستتوقف رحلات السفر هذه طوال أشهر أو سنوات. أخيراً، طوّرت الإمارات وقطر بنية تحتية ضخمة بعدما أصبحتا معقلاً للرحلات الجوية الدولية التي تربط بلدان العالم، وسيكبح الانكماش الاقتصادي معظم تلك الرحلات، وستتوقف الرحلات المتبقية تزامناً مع انتشار "كوفيد-19" في عدد من أبعد المناطق التي ضمّها طيران الخليج حديثاً إلى الاقتصاد الدولي.

حين اندلعت أحداث الربيع العربي عام 2011، تجاوبت حكومات كثيرة عبر فتح خزائنها، كانت الحكومات الخليجية تحديداً تظن أن زيادة الإنفاق العام، في بلدانها الخاصة وفي الدول الأكثر اكتظاظاً في المنطقة، ستكون كافية لضمان السلام الاجتماعي، وقد كانت محقة بدرجة معينة، لكن في ظل تصاعد الاستياء العام وانهيار أسعار النفط هذه المرة، لم تعد الموارد المالية متاحة.

لن ينجو أي بلد في المنطقة من تداعيات الوضع، وسيكون جزء من البلدان التي تواجه أسوأ العواقب مهماً للحفاظ على الأمن الأميركي، لقد أصابت الأزمة الصحية والاقتصادية المزدوجة عمق إيران التي كانت تواجه أصلاً حملة "الضغوط القصوى" من جانب الولايات المتحدة، ولا يمكن توقّع نتائج هذه الاضطرابات كلها بعد (نشوء حكومة أكثر مرونة أو أكثر تطرفاً، أو الغرق بكل بساطة في فوضى داخلية متواصلة).

من المستبعد أن تؤثر الأزمات الصحية والمالية على النظام السعودي بشكل كبير، لكنها ستهدد حتماً برنامج العصرنة المكلف والطموح الذي أطلقه ولي العهد محمد بن سلمان على أمل أن يصبح من أكبر إنجازات عهده، كونه يعتبره أساسياً لمستقبل المملكة. تملك إسرائيل موارد مالية وصحية مهمة، لكن جميع الدول المجاورة لها أصبحت مُهددة؛ فحتى قبل انتشار الفيروس كان لبنان يواجه أزمة سياسية مزمنة، ويشمل لاجئين سوريين بمعدل لاجئ واحد مقابل كل خمسة أشخاص في البلد، كما أجبرت الأزمة المالية الحكومة على التخلف عن سداد جزء كبير من ديونها الدولية. وحتى الأردن، الذي يُعتبر أمنه محورياً لإسرائيل ودول الخليج والولايات المتحدة، أصبح في خطر، وربما توشك مصر على مواجهة كارثة حقيقية، إذ يتابع المصريون التجمّع في المقاهي والمساجد على اعتبار أن الله سيحميهم.

اشتق الربيع العربي من عوامل متعددة، أبرزها الاستياء العارم من أداء الحكام، اشتكى الرجال والنساء والشباب والكبار حينئذ من اهتمام الحكومات بمصالحها الخاصة وامتناعها عن تحسين معيشة الناس، واليوم في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية واشتداد الضغوط على الأنظمة الصحية بدرجة غير مسبوقة، قد تكتشف الحكومات أنها عاجزة حتى عن حماية معيشة المواطنين أو حياتهم، ووسط هذه الأجواء المشحونة، أصبحت جميع الاحتمالات واردة!

* جون ب. ألترمان

* «ذي هيل»