أكتب مقالي هذا بعد سريان حظر التجول في الكويت، وبعد أن صارت المساجد ترفع الأذان مختوماً بترديد عبارة "صلوا في رحالكم" أو "صلوا في بيوتكم". والأمر جد جديد، وجد مربك، وجد مغشّى بما سيأتي به. لكني وكمن يتراءى له لون غدٍ من خلف غلالة اللحظة، أقول: بسرٍّ وهدوء انبعث فيروس "كورونا"، وبسرٍّ وهدوء عبر من بلد إلى بلد، وبسرٍّ وضوضاء كبيرة ها هو يجتاح العالم، ويستطيع كما لم يستطع غيره، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، أن يشلَّ البشرية عن مختلف أنشطة يومها، وأن يوحدها في الوقوف بوجهه. لكن، هذا هو وجه العملة الأول، بينما يتراءى لي أن لها وجهاً آخر وربما وجوه.

فالعالم يشهد حرباً صحية ضروساً للوقوف في وجه "كورونا"، والتصدي له، وتقليل الخسائر البشرية ما أمكن ذلك. وللمرة الأولى تُستنفر الأجهزة الأمنية في العالم أجمع لخدمة الأجهزة الطبية والمعامل والمختبرات، وإلى حدٍ ما العلماء، وتحديداً علماء شركات الدواء. وإذا كان التصدي للوباء يمثل الهم والوجه الأول، فهذا هو الوجه الثاني، حيث يجري سباق محموم بين البشر للوصول إلى لقاح للوباء، وهذا ليس حباً خالصاً للبشر، لكنه حلم بالمليارات التي ستنهال على كبرى شركات الدواء في العالم.

Ad

وجه ثالث يبرز بين حين وآخر في العلن، بينما يبقى مستعراً في كل حين في الخفاء، وهو الحرب الدائرة على زعامة العالم بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، والتي سيطول أمدها، وربما لعقد أو أكثر، لكن ملامحها الأولى تشي بأن الجولة الراهنة تميل صوب الصين، وبما يبشر بملامح ميلاد عالم جديد، يقوده بشر بقناعات ومعتقدات ومسلك اجتماعي مختلف غير ذاك الذي اعتاده العالم، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وثالث الوجوه هذه سيقلب وينسف معايير كثيرة في العالم.

رابع الوجوه الخفية التي تجري معاركها بالتوازي مع المعارك الصحية للتصدي لـ "كورونا"، هو الحروب الاقتصادية المالية، فواضح جداً أن انتهاء معركة "كورونا" ستعني، بما لا شك فيه، ولادة نظام مالي اقتصادي عالمي جديد، صحيح سيبقى الدولار، ولو لعقد من الزمن، هو المسيطر على الأسواق العالمية، لكن العملة الصينية الرسمية، "الرنمنينبي- Renminbi" والتي تعني "أموال الشعب" ويُطلق عليها اسم "اليوان- Yuan" سيكون لها حضور بارز في أسواق المال، ومؤكد ستُعقد صفقات دولية بالمليارات بهذه العملة.

خامس الوجوه هو إعادة رسم خريطة استعمارات جديدة، بأسواق مال ونفوذ جديدة. استعمارات لا تستخدم الجيوش والجنود لاحتلال أي دولة، لكنها تكون ولي أمر تلك الدول وصاحب القرار فيها، وبالتالي مالك كلمتها، والمتصرف بأموالها واقتصادها، والراسم الأكبر لسياساتها ومعاهداتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، ودون أن تبتعد عن القضايا الاجتماعية.

الوجه السادس هو إعادة النظر في كيفية تنقل الأفراد من بلد إلى آخر. وإذا كان انسلاخ بريطانيا من دول الاتحاد الأوروبي قد مهّد لهذا الوجه وما يتبعه من تغيير، فإنني أرى أنه في حال نهاية أزمة "كورونا" ستكون شعوب العالم أمام نظام وشروط سفر جديدة، بشروط فيز جديدة متشددة، وخاصة انتقال شعوب العالم الثالث ومن على شاكلتها إلى عموم دول أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وكندا. فلا تأشيرة "الشنغن- Schengen" ستبقى كما هي، ولا تأشيرة بريطانيا ولا أميركا، ولا أي دولة في العالم، فنظام انتقال البشر سيتغير ومعه سيتغير نظام السفر والتأشيرات والتذاكر.

قد يصدق وجه من الوجوه أعلاه، وربما أكثر، وقد لا يكون، لكن الثابت أن البشرية تمرّ بأيام تعيش من خلالها تغير وجه العالم، والثابت أيضاً أن هذا التغير سيجرُّ علينا تغيرات كثيرة في صميم عيش الإنسان وحياته العلمية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ليس الغد ببعيد، لكنه بلون مختلف!