كتب هُجِرت حتى تحولت في لحظة ما إلى جزء من تفاصيل البيت العادية، أفلام رائعة قديمة وجديدة وُضِعت القائمة لها وبقيت في مكانها بالقرب من ذاك الجهاز الذي تَحوَّل أداةً للنكد المستمر، كثرت مشاهداتنا ومتابعاتنا للأخبار، وهي في مجملها مؤلمة حزينة وتثير الاشمئزاز والقرف في كثير من الأحيان، ربما لازدواجية المعايير وربما للكذب المنمق أو حتى لأنها أصبحت مرتعاً للطبالين، وبالطبع لا أعني أولئك الذين يعزفون الموسيقى، بل آخرين فاسدين وبغيضين، ولذلك فقد أسكت هذا الوباء بعضهم أو غطت عليهم أخبار الأعداد المتزايدة من المتساقطين تحت رحمة فيروس!!

تأمُّل لم تمنحه الأيام لكثرة الجري خوف أن يسرقنا الزمن أو خوفاً من أن نفقد أمراً لم نقم به! أو عملاً نتأخر عنه أو مناسبة لا نريد أن «تفوتنا»... كنا نريد كل شيء، ونحصل في نهاية النهار على اللاشيء، فقط فقاعات خلف فقاعات، وأحاديث تتنوع بين النقاشات الحادة التي تساهم في تقسيم المُقسَّم وتفتيت المُفتَّت، أو في كثير من التفاهات والحديث البارد المستهلك.

Ad

الآن ومع صرخة أمنا الكبرى وغضبها، أمنا الأرض التي لم يحتفل الكثيرون بها، رغم أن الحادي والعشرين من مارس هو عيد الأم، وهي التي أُهمِلت سنين بل أسيء إليها، حتى لم تعد تتحمل فأدارت ظهرها وتركتنا نتحمل خطايانا، ولكنها أكثر رحمة ككل الأمهات، عادت لتقول: ربما علي أن أمنحهم الفرصة الأخيرة، بل الدرس القاسي الأخير، لأن الأم عندما تقسو تنظر للبعيد لأطفالها، تعمل على تربيتهم عندما يضلون الطريق أو يرضخون للغوايات المتنوعة، وليست كلها دنيوية كما يكرر المنافقون من رجال الدين، أي دين، يتساوون جميعاً. أولئك الذين عندما قال لهم مريدوهم: أنقذونا فالوباء قادم، وهو يحصدنا كالجراد، أُسقِط في أيديهم، وانقلب سحرهم عليهم، وأوصدوا الأبواب مرة خوفاً على «المؤمنين» وأخرى التزاماً بالقوانين!

وبينما خلت البيوت من أرواحها التي تحولت إلى أشباح، لا حوار ولا مساحة للحب ولا حتى وجبة مشتركة... كلٌّ يستخدم المنزل كأنه محطة قطار سريع ينزلون فيها ليقضوا احتياجاتهم ويعودوا إلى الطريق، فإن هذا الفيروس جاء بعد ذلك ليعيد الحياة إلى بعض حقيقتها، إلى معناها الأزلي... فالحياة ليست فستاناً وحقيبة، ولا هي يخت ورحلة تزلج، في حين تعيش الأغلبية أيامها كجري الوحوش ولا تُحصِّل إلا الرزق اليسير.

هي مساحة لاغتسال الروح بدمعٍ طالما انحبس في العيون، والآن تدفق كالشلال، الدمع الذي انتظر طويلاً حتى تعب، وهو يعلم أن من دونه لن تُفتَح النوافذ لحدائق مزهرة... وهو الدمع الذي كان يبحث عن وقفة للبوح عن حزن أو ألمٍ لأحبة رحلوا أو آخرين بعدوا، حتى لو بقيت أجسامهم تدور حولنا دون أن تتلاقى الأرواح... مساحة لفتح تلك الألبومات القديمة بصور كان لها طعم ورائحة، وليست هذه التي نضغط على زر فتصبح صورنا وخصوصياتنا مشاعاً... كانت الألبومات هي كنزنا، نحرص أن نضعها في خزانة «الأثمن في حياتنا»، لأنها أكثر بقاء من عقد من الألماس أو خاتم من الزمرد.

نعيد قراءة «الحب في زمن الكوليرا» وكل روائع ماركيز، هل يا ترى سيكتب أحدهم رواية «الحب في زمن الكورونا»؟! نستمع لموسيقى كانت ملاصقة لنا على أشرطة كبيرة، ما لبثت أن صغرت، وقبلها أسطوانات عادت اليوم لتتحول إلى شيء من الابتكارات العبقرية. افتحوا تلك الخزانة ستجدون تلك التي كنا نسمعها في مساءاتنا، ومطلوب أن نخلد للنوم لنصحو باكراً إلى مدارسنا، وهو يجلس قرب الغرامافون يردد «يا سلام» وهي تقول «ألف ليلة وليلة»... ونضحك ونحن واقفون على السلم بين الطابقين اللذين كانا عالمنا الصغير، ونردد ما الذي يعجبه في ذلك؟ ونحن أيضا لنا موسيقانا، بعضنا مغرم بعبدالحليم «أنا لك على طول خليك ليا»، وآخرون يرددون البيتلز «شي لوفز يويا يا يا»... كلنا نهفو لذلك الزمن الجميل، الوقت يمضي ببطء فيتسع لشبابيك أن تنفتح وللمكتبات بأن تزين جدراناً لو نطقت لرددت عبارات من روايات إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي وتنهيدات المراهقات وهم القلوب من بعيد.

هي مساحة للعودة إلى الحديث الدافئ مع كوب من الشاي بالحليب مع الزعفران والهيل وبعض قطع البسكويت، حيث تلتئم الأسرة والضيوف عند العصر... يتناجى الإخوة ويضحكون حتى القهقهة لأن الوقت يسمح حتى بالضحك والبكاء وكل أشكال المشاركة... الضحك الذي شح هو الآخر كما جمعة المساءات الرطبة وقبل موسم «الرطب» أي البلح بتلاوينه.. لم يعد كثيرون يهتمون أو يعرفون ذاك المذاق الخاص لمئات الأنواع من الرطب بألوانه الصفراء والحمراء وما بينها وأسماءه... ولا يحلو إلا ومعه قهوة لا تحلو إلا من يد أمهاتنا يصنعنها بعناية فائقة ومقادير دقيقة، فالقهوة ليست كما يتخيل البعض، بعضاً من البن والماء، بل هي كثير من المحبة والمهارة العالية.

هي مساحة لإعادة الحياة إلى دواوين محمود درويش وبدر شاكر السياب وأمل دنقل.. وموسيقى وأغاني الشيخ إمام بشعر أحمد فؤاد نجم، تأتي من الغرفة التي أوصد بابها خلف تلك الشلة الثائرة الرافضة لكل القيم، بنات وصبيان في مقتبل العمر يبحثون عن حرية ما يتابعون ما يجري في باريس 1968 بأعين متشوقة لما يشبه ذلك في أوطانهم... هم أيضا كانوا يمتلكون الوقت والمساحة ليكونوا جزءاً من ذاك الوقت المختلف.

ربما هي فرصة، ربما هي لحظة للوعي، ربما هي الإنذار الأخير لنا، كلنا ولا تستثني أحداً...

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية