قبل ظهور أزمة فيروس كورونا، كنت أفكر بتأليف كتاب عن الأحزاب السياسية في القرن الحادي والعشرين، لكن على ضوء هذا الوباء العالمي، من الأفضل أن نتخلى جميعاً عن أي نوع من الكتب الواقعية التي نعمل عليها راهناً، لقد وصلنا إلى لحظة مفصلية تقسم العالم بين حقبة ما قبل كورونا وما بعده، لم نبدأ بعد بتخيّل شكل العالم بعد زمن كورونا، لكن في ما يلي بعض النزعات الناشئة:

Ad

أفق مجهول

كتبتُ كتاب The World Is Flat (العالم مسطّح) عن تنامي الترابط العالمي في عام 2004، لكن زاد ترابط العالم منذ ذلك الحين، حين بدأتُ العمل على ذلك الكتاب، كان «فيسبوك» قد انطلق للتو و»تويتر» مجرّد فكرة، وكانت السُحُب لا تزال في السماء، وشبكة الجيل الرابع عبارة عن موقف سيارات، و»لينكد إن» رمز للسجن، وكانت التطبيقات بنظر معظم الناس تشير إلى المعلومات التي نرسلها إلى الجامعات، وكان «سكايب» خطأً مطبعياً، وأشارت «البيانات الكبرى» (Big Data) إلى اسم فرقة راب. أما جهاز «آي فون»، فكان لا يزال مشروعاً سرياً لستيف جوبز.

لكن سرعان ما انفجرت أدوات التواصل تلك، ولا ننسى التجارة العالمية والسياحة، بعد عام 2004 وسمحت بربط العالم ببعضه، لهذا السبب لا يمكن اعتبار عالمنا اليوم مترابطاً بكل بساطة، بل إنه متداخل أو حتى مُنْصَهر على مستويات عدة.

كانت هذه المعطيات كفيلة بتسريع النمو الاقتصادي، لكنها تعني أيضاً أن تدهور الوضع في مجال معيّن ينقل المشكلة إلى مجالات أخرى بوتيرة أسرع وبتداعيات أعمق وبكلفة أقل من أي وقت مضى. حين يعضّ خفاش مليء بالفيروسات حيواناً آخر من نوع الثديات في الصين، ثم يُباع ذلك الحيوان في سوق الحيوانات البرية في «ووهان» وينقل فيروس كورونا الجديد إلى مستهلك صيني، من الطبيعي أن تغلق جميع المدارس العامة أبوابها ويبتعد الناس عن بعضهم لتجنب العدوى.

لكنّ الأزمة التي خلّفها هذا الفيروس لا توشك على الانتهاء لهذا السبب بالذات، يقول بيل جوي، عالِم كمبيوتر شارك في تأسيس شركة Sun Microsystems: «كان نمط انتشار الوباء في الأسابيع القليلة الماضية متوقعاً وغير مفاجئ، لكننا وصلنا الآن إلى مرحلة بدأت فيها أنظمتنا المتشابكة (لكل نظام حلقاته الارتجاعية الخاصة) تتعطل بطرقٍ غير متوقعة، سيؤدي هذا الوضع حتماً إلى عواقب عشوائية وفوضوية، كأن يعجز العاملون في قطاع الرعاية الصحية عن الاعتناء بأولادهم».

قوة الظواهر المُعدية

لا يستطيع العقل البشري أن يستوعب بسهولة قوة الظواهر المُعدية التي تتضاعف بوتيرة متواصلة، على غرار الأوبئة، إذ يعجز الدماغ عن تقبّل فكرة أن تنفجر 5 آلاف حالة مؤكدة من فيروس كورونا في الولايات المتحدة وتصل إلى مليون إصابة سريعاً ما لم نعزل أنفسنا فوراً.

إليكم طريقة بسيطة لتفسير هذا التهديد الذي نواجهه، بالشكل الذي أوضحه بيل جوي: «يشبه الفيروس مرابي القروض الذي يفرض فائدة بقيمة 25% يومياً، وإذا اقترضنا دولاراً واحداً (أول إصابة بفيروس كورونا تظهر في البلد)، ثم أضعنا الوقت طوال 40 يوماً، سيصبح ديننا بقيمة 7500 دولار، وإذا انتظرنا ولم ندفع قبل ثلاثة أسابيع، فستصل ديوننا إلى مليون دولار تقريباً».

لهذا السبب، لا بد من بذل جهود يومية لإبطاء معدل الإصابات وإجراء الاختبارات اللازمة، وعند خسارة هذه المعركة، سنخسر الحرب كلها!

ولهذا السبب أيضاً، لا أكتفي اليوم بمراقبة معدلات الفائدة في الاحتياطي الفدرالي، بل أراقب أعداد المصابين بحالات حرجة من فيروس كورونا مقارنةً بعدد المستشفيات العامة والأَسِرّة اللازمة في وحدات العناية المشددة للاعتناء بهم، وإذا بقي هذان الرقمان متناسقَين حين يبلغ انتشار العدوى ذروته، فسيكون وضعنا سليماً، وإلا سنواجه فوضى عارمة إلى جانب تداعيات الوباء.

قد يسمح عامل آخر بإنقاذنا في نهاية المطاف: إنه «قانون مور» الذي ابتكره غوردون مور، أحد مؤسّسي شركة «إنتل»، في العالم 1965، إذ يفترض هذا القانون أن تتضاعف سرعة الكمبيوتر وقوة المعالجة فيه كل سنتين نتيجة دسّ أعداد إضافية من الترانزستور داخل الرقاقة.

لتفسير قوة «قانون مور» وقدرته على تحسين جميع الابتكارات وتسريعها وجعلها أكثر ذكاءً، طلبت شركة «إنتل» من المهندسين فيها أن يأخذوا سيارة «فولكس فاغن بيتل» من عام 1971 ويحاولوا احتساب ما ستكون عليه تلك السيارة اليوم لو أنها تطورت بمعدل تقدّم الرقائق منذ عام 1971، ووفق أفضل تقديرات المهندسين، كانت تلك السيارة ستقطع اليوم نحو 300 ألف ميل في الساعة ومليونَي ميل لكل غالون وتكلّف 4 سنتات.

هذه هي قوة السرعة المضاعفة في مجال الهندسة، وقد يساعدنا هذا المبدأ نفسه في ابتكار علاج ولقاح لفيروس كورونا سريعاً.

في هذا السياق، كتب نيتين باي، مدير معهد «تاكشاشيلا» البحثي المستقل في «بنغالور»، الهند، على موقع livemint.com حديثاً: «أدى التقدم الحاصل في تكنولوجيا الكمبيوتر وعلم الأحياء التركيبي إلى إحداث ثورة في مجال رصد الأمراض وتشخيصها وفي عمليات تصميم وتطوير اللقاحات، من خلال إخضاعها لدورات مستوحاة من «قانون مور»، من المتوقع أن تطلق الأوبئة الحديثة، بدءاً من «سارس» وإنفلونزا الخنازير و»إيبولا» و»زيكا»، وصولاً إلى «كوفيد-19» اليوم، مجموعة إضافية من المواهب والابتكارات الفكرية في قطاع العلوم البيولوجية والوبائية».

لكن هل سيكون هذا التقدم سريعاً بما يكفي؟ حتى في عصر أجهزة الكمبيوتر الخارقة، يقول غوتام موكوندا، باحث في «مركز القيادة العامة» التابع لكلية «كينيدي» في جامعة «هارفارد»، إننا «لم نجد بعد أي لقاح ضد فيروس نقص المناعة البشرية أو الملاريا، وهما مرضان خطيران وشائعان ونحن نحاربهما منذ سنوات، وفي مرحلة معينة سيتمكن قطاع العلوم حتماً من تطوير لقاحات جديدة بسرعة فائقة، لكن لا يزال هذا الهدف بالغ الصعوبة حتى الآن».

هل ستتغير الثقافة أو السياسة الأميركية بسبب الوباء؟

ثمة مزحة لن يستعملها السياسيون الجمهوريون خلال الحملة الانتخابية هذه السنة، هم لن يهاجموا الدولة العميقة والبيروقراطيين الحكوميين ولن يجعلوا الجمهور يضحك هذه المرة عند سماع عبارة: «مرحباً، أنا ممثّل عن الحكومة وجئتُ لأقدّم المساعدة»!

سنتجاوز هذه الأزمة بفضل المواهب العظيمة والالتزامات النبيلة في دولتنا العميقة وحكومتنا الكبرى، أي العلماء والخبراء في شؤون الطب والكوارث والبيئة: إنهم الأشخاص الذين حاول ترامب تهميشهم. أراهن اليوم على القطاع العام وشركات الأدوية النافذة لإنقاذنا من هذه المحنة.

قد تتغير الثقافة السياسية الأميركية أيضاً قبل انتهاء هذه الأزمة، فقد كتبت الأستاذة ميشيل غيلفاند من جامعة «ماريلاند» كتابRule Makers, Rule Breakers: How Tight and Loose Cultures Wire Our World (صانعو القواعد، كاسرو القواعد: كيف تربط الثقافات الضيقة والفضفاضة العالم»، وفي مقالة لها في صحيفة «بوسطن غلوب» الأسبوع الماضي، تتذكر بحثاً نشرته مع زملائها قبل سنوات في مجلة «العلوم»، حيث صنّفوا البلدان بين «ضيّقة» و»فضفاضة»، بحسب الأولوية التي تعطيها للقواعد على حساب الحرية، فكتبوا: «تتبع المجتمعات الضيقة، على غرار الصين وسنغافورة والنمسا، قواعد كثيرة وتحكم العقوبات السلوك الاجتماعي فيها، حيث يعتاد المواطنون في تلك البلدان على درجة عالية من الرقاية التي تهدف إلى ترسيخ حسن السلوك، أما الثقافات الفضفاضة، كما في الولايات المتحدة وإيطاليا والبرازيل، فتضعف فيها القواعد وتكون أكثر تساهلاً بكثير».

لم تكن هذه الاختلافات عشوائية برأيها: «تحمل البلدان التي تفرض أقوى القوانين وأقسى العقوبات تاريخاً حافلاً بالمجاعات والحروب والكوارث الطبيعية وحتى تفشي الأمراض، لقد استخلصت هذه البلدان المعرّضة للكوارث الدروس من تجاربها على مر القرون بأصعب طريقة واستنتجت أن فرض القواعد الصارمة والنظام ينقذ حياة البشر، وفي المقابل تستطيع الثقافات التي تواجه تهديدات ضئيلة، على غرار الولايات المتحدة، أن تتمسك بمقارباتها المتساهلة».

تقول غيلفاند إن المجتمعات «الضيقة المعروفة»، مثل سنغافورة وهونغ كونغ، أبدت بكل وضوح أكثر الاستجابات فاعلية تجاه مرض «كوفيد-19».

في الوقت نفسه، توسعت المخاطر المطروحة على جميع الأميركيين بسبب غياب التنسيق في البيت الأبيض وسوء أداء شخصيات عامة متهورة، من أمثال لاري كودلو، وشون هانيتي، ولورا إنغراهام، وراش ليمبو، وكيليان كونواي، وديفين نونز، وترامب شخصياً، فقد استخف هؤلاء في البداية بأثر الفيروس المحتمل أو اتهموا كل من يدعو إلى تحرك عاجل بإخفاء دوافع سياسية مبطّنة.

في النهاية، تستنتج غيلفاند: «في ظل انتشار الشكوك في كل مكان، يجب أن نتذكر أن مسار المرض يتعلق بطبيعة فيروس كورونا بقدر ما يتأثر بثقافة البلد. تحتاج برامجنا الثقافية الفضفاضة إذاً إلى انقلاب جذري في الأيام المقبلة». حقق الجيل الأعظم هذا الإنجاز خلال الحرب العالمية الثانية، لكن هل نستطيع نحن تحقيقه اليوم؟

السخاء وحده سينقذنا!

يستثمر ملايين الناس من أصحاب الشركات وأرباب العمل أموالهم في موارد طويلة الأمد على افتراض أن قيمتها سترتفع مع مرور الوقت (سهم، شركة، منزل، مطعم، متجر)، لكنها أموال لا يستطيعون دفعها في الوقت الراهن.

لهذا السبب، لا يكفي أن يدعم الاحتياطي الفدرالي البنوك لتجنب انهيار كامل ولا يكفي أن تعيد البنوك هيكلة ديونها، بل يجب أن يتلقى جميع العاملين فيها أموالاً نقدية كي يتمكنوا من إعالة أنفسهم بعد صرف آخر راتب قبضوه، ومن الإيجابي أن نشاهد خطوات متسارعة في هذا الاتجاه من جانب الإدارة الأميركية والكونغرس.

كلما سارعنا في إحكام قبضتنا على ثقافتنا تزامناً مع تقديم التسهيلات المالية اللازمة، ازدادت قوة المجتمع ولطافته في حقبة ما بعد كورونا!

توماس فريدمان*