حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في شهر سبتمبر الماضي وخلال وجوده في نيويورك لحضور أعمال هيئة الأمم المتحدة القيام بوساطة مباشرة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الإيراني حسن روحاني، ولكن تلك المحاولة باءت بالفشل لأن روحاني رفض الفكرة في اللحظة الأخيرة، وبحسب مصادر فرنسية فإن ترامب وجه الشكر الى إيمانويل على جهوده وشجعه على الاستمرار في محاولته.

وفي تلك الأثناء انطلق إعصار سياسي ضد الرئيس ترامب من جانب رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي، وهي ديمقراطية من ولاية كاليفورنيا، التي أعلنت البدء بتحقيق رسمي لإدانة الرئيس ترامب، وهو الإجراء الرابع في تاريخ الولايات المتحدة والثالث منذ عام 1973.

Ad

كان ماكرون يعلم أن ترامب عرضة لمتاعب سياسية، ولم تكن محاولته فتح خط اتصال بين الرئيس الأميركي ونظيره الإيراني تجري بدافع الغيرية وخدمة الآخر، وكان الأوروبيون قد راقبوا بيأس تخلي الإدارة الأميركية في 2018 عن الاتفاق النووي مع إيران الذي تم التوصل اليه في 2015، كما أن الشركات الأوروبية بما فيها الفرنسية (توتال) و (إيرباص) سارعت إلى إقامة أعمال تجارية مع الشركات في إيران بعد ذلك الاتفاق الذي أفضى إلى رفع الكثير من العقوبات الدولية عن طهران، والآن تواجه تلك الاستثمارات الفرنسية خطر التعثر والتراجع.

من جهة أخرى كانت أزمة إجراءات إدانة الرئيس ترامب أيضاً خطوة ألحقت الضرر بجهاز السياسة الخارجية في الولايات المتحدة، وخلال إدانة الرئيس ريتشارد نيكسون تمكن فريق السياسة الخارجية برئاسة وزير الخارجية هنري كيسنجر من ملء الفراغ الذي نجم عن عجز الرئيس عن العمل إلى حد كبير، وفي عهد الرئيس بيل كلينتون قام فريق الأمن القومي بالعكس تماماً، وكان يتبع خطوات القيادة النشطة لرئيس يسيطر على مسار السياسة الخارجية بقوة، ولكن في حال إجراءات إدانة ترامب توجه الرئيس نحو الحرب– بشكل خاص أو علني– مع مؤسسة الأمن القومي، وكانت ردة فعله ترجع بكل تأكيد الى شخص مهم من الأمن القومي استدعي للشهادة ضد الرئيس ترامب.

سحب القوات الأميركية

وكانت ردة فعل ترامب الأولية إزاء خطر الإدانة قد تمثلت في محاولة خفض إمكانية حدوث متاعب خارجية، وكان يأمل تحقيق تقدم عبر اجتماعه مع الرئيس الإيراني حسن روحاني إضافة إلى سحب القوات الأميركية من منطقة الشرق الأوسط، وهي خطوة كان وعد بالقيام بها خلال حملته الانتخابية. وفي السادس من أكتوبر أحدث ترامب هزة في العالم عندما وافق على طلب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سحب القوات الأميركية من منطقة الحدود السورية– التركية بغية تمكين الجيش التركي من غزو ذلك البلد.

وقد أطلق ذلك الاتفاق مع أنقرة معارضة فورية ليس من جانب أعضاء الحزب الديمقراطي في الكابيتول هيل ومهنيي الأمن القومي فقط، بل من أعضاء حزب ترامب نفسه، ومن قادة الجيش الأميركي نظراً لأن تلك الخطوة كانت تعني تخلي الولايات المتحدة عن شركائها الأكراد الذين أدوا دوراً رئيساً في الائتلاف الذي قام الرئيس السابق باراك أوباما بتشكيله من أجل محاربة تنظيم داعش.

وربما لم يتوقع ترامب ردة الفعل السلبية الحادة تلك، وقد سارع إلى محاولة احتواء التداعيات السياسية التي نجمت عن قراره، وبعد قيام الطائرات التركية بغارات على مواقع الأكراد في التاسع من أكتوبر بعث ترامب برسالة الى أردوغان يطلب فيها من الأخير عدم المضي في خطة الغزو، ولكن الجيش التركي تقدم الى الداخل السوري على أي حال، كما سبق لتركيا أن استغلت أزمة نيكسون في عام 1974 وقامت بغزو جزيرة قبرص.

وهاجمت المليشيات المدعومة من إيران في العراق قاعدة عسكرية أميركية في شمال البلاد، وأسفر الهجوم عن جرح عدد من الجنود الأميركيين والعراقيين اضافة الى قتل متعاقد أميركي، وربما ظنت طهران أن الرئيس ترامب منشغل بقضية الادانة بالتالي فإنه لن يرد بضربة انتقامية، لكن رد ترامب جاء بسرعة واضحة.

جدير بالذكر أن ما حدث بعد ذلك في سياق الحرب الباردة بين واشنطن وطهران كان من النوع الذي يصعب تفسيره من دون أخذ الاعتبارات المحلية بالحسبان، وعلى سبيل المثال عندما عمدت ايران الى مهاجمة قواعد عراقية يقطنها جنود أميركيون في الثامن من شهر يناير الماضي فقد أصبح واضحاً أيضاً أن اغتيال الجنرال قاسم سليماني لم يكن جزءاً من أي استراتيجية أوسع للردع أو لتغيير النظام، كما كان من الواضح في تفكير الرئيس ترامب عدم وجود حاجة الى رد أميركي حتى مع ادراكه أن الامتناع عن الرد كان يعني السماح لإيران بالمضي نحو حيازة قنبلة نووية.

وقد تم إيداع أكثر من 100 جندي أميركي في المستشفيات لمعالجتهم من إصابات في الرأس ثم كانت رسالة البيت الأبيض جلية تماماً، وتتلخص في أن ترامب لا يريد حرباً في الشرق الأوسط بل استعراضا للقوة بهدف تعزيز وضعه في خضم أزمة سياسية محلية.

وفي العشرين من يناير الماضي لاحت مؤشرات اجراء محاكمة للرئيس ترامب في مجلس الشيوخ، ثم طرح ترامب اتفاقية تجارية دولية كان يأمل أن تلمع صورته، وفي أكتوبر الماضي عندما بدأ الكونغرس تحقيق الادانة أعلن ترامب اتفاق الولايات المتحدة والصين على اطار عمل عام لاتفاق «المرحلة 1» وهدنة في الحرب التجارية بين البلدين، تفضي الى مفاوضات تهدف الى التوصل الى اتفاقية شاملة «في المستقبل القريب»، وعلى شكل جزء من إطار العمل المذكور تعهد ترامب بتأجيل تنفيذ التعرفات الجديدة التي كان هدد بفرضها في أكتوبر.

بداية الحرب التجارية

وعندما بدأ ترامب الحرب التجارية ضد الصين في 2018 ردت الأخيرة بخطة هدفت الى تقويضه على الصعيد السياسي، لكنها عادت وقدمت له الدعم في عام 2019، وتجدر الاشارة الى أن بكين سعت في عام 1974 وفي عهد ما وتسي تونغ الى الحفاظ على علاقاتها مع فريق نيكسون– كيسنجر الذي مكنها من الوصول الى ما لدى الولايات المتحدة من التقنية والاستخبارات والقدرات الأمنية لمواجهة الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت.

وهكذا أعرب ماو تسي تونغ عن دعمه لدبلوماسية المكوك التي طرحها كيسنجر في الشرق الأوسط ولم تعترض على التقارب الأميركي السوفياتي.

وبالمثل لمس الرئيس الصيني شي جين بينغ في عامي 2019 و2020 فائدة طويلة الأجل في جذب ترامب الى جانبه، وقبل أزمة الإدانة التي تعرض ترامب لها لم تكن الصين تظن أن في وسعها وضع نهاية لحرب التجارة من دون تحقيق تشريعات إصلاحية محلية مؤلمة، كما أن بكين لمست وسيلة اخرى للخروج من تلك الحرب المكلفة وذلك من خلال تقديم تنازلات تجارية يستطيع ترامب أن يصورها على شكل انتصار لسياسته.

وكجزء من اتفاق «المرحلة 1» الذي تم توقيعه في 15 يناير الماضي وقبل أسبوع من بدء محاكمة ادانة ترامب في مجلس الشيوخ وعدت الصين بشراء ما قيمته 200 مليار دولار من البضائع الأميركية خلال العامين المقبلين، على أن يتم استيراد ما قيمته 76 مليار دولار خلال العام الحالي. ولم تعلن الولايات المتحدة والصين الشركات الأميركية التي ستستفيد من ذلك الاتفاق، ولكن ترامب أوضح أثناء حفل التوقيع أن المفاوضين الأميركيين سيركزون على الولايات التي يمكن أن تخدم حملة اعادة انتخاب الرئيس ترامب.

وتجدر الاشارة الى أن أزمة ادانة ترامب– وخصوصا دفاع حلفائه في الكونغرس– دمر أي زعم عن أن الولايات المتحدة تعمل في الوقت الراهن وفقاً للمصلحة القومية، كما أظهر أنصار ترامب لا مبالاة إزاء مبادئ الأمن القومي الأميركي، إضافة الى أن ترامب عمد الى تسريع أجندته الداعية الى «أميركا أولاً» والتي كانت عملياً «ترامب أولاً».

سياسة الشرق الأوسط

لقد انسحبت الولايات المتحدة بشكل فعلي من الشرق الأوسط، وأظهرت عدم اهتمامها في ضمان استقرار سورية أو العراق، وعندما اختبرت طهران ترامب في لحظة ضعفه تصرف بشكل ملائم في البداية لكن عاد وعمد الى التصعيد المتهور من خلال عملية اغتيال في العراق لم يكن يتصور حجم تداعياتها.

وأخيراً، قبل ترامب رشوة من الصين في عام الانتخابات بدلاً من تغييرات هيكلية حقيقية في العلاقات التجارية الأميركية– الصينية، وبعد نحو ثلاثة أعوام من رئاسته بدد ترامب معظم صدقه الدولي كما أن أزمة ادانته قضت على ما تبقى من ذلك الصدق، وقد برهن على أن من السهل تلاعب الزعماء الأجانب به بقدر يفوق ما كانت الحال عليه من قبل.

● تيموثي نافتالي