تشكّل خطة السلام التي طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب للشرق الأوسط في 28 يناير الماضي نهاية فعلية لحقبة اتفاقيات أوسلو التي شهدت محاولة عقد سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فـ»صفقة القرن» لا تتخذ القانون الدولي مرجعاً لها، ولا تشير إلى اتفاق يُلزِم الطرفين بالقرارات الدولية الرامية إلى إنهاء الصراع، كما أنها تتجاهل الالتزامات التي قام بها الطرفان بموجب اتفاقيات قائمة، ولا ترتكز على أي تقدم أحرزه المفاوضون الأميركيون والإسرائيليون والفلسطينيون في آخر 20 سنة، بل إنها تقترح صفقة عقارية بامتياز: تحصل إسرائيل على مساحة شاسعة من الأراضي الفلسطينية المحتلة في عام 1967، ويتلقى الفلسطينيون تعويضات مالية مقابل تجاهل حاجاتهم الأساسية إلى السيادة والاستقلال ومسائل أخرى.

صحيح أن خطة ترامب تدعم ظاهرياً حل الدولتين، لكنها تعطي إسرائيل سيطرة كاملة على القدس باعتبارها عاصمتها «الموحّدة» وتسمح لها بفرض الأمن في الضفة الغربية، كما أنها تعطي إسرائيل الحق بضم 30 في المئة من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، مما يحوّل «الكيان» الفلسطيني إلى مقاطعات غير مترابطة داخل دولة إسرائيل، كذلك، ترفض هذه الخطة مبدأ عودة اللاجئين الفلسطينيين وتمنح إسرائيل حق النقض بخصوص إعادة توطينهم في «الكيان» الفلسطيني.

Ad

رفض رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ذلك الاتفاق فوراً ثم هدد بقطع العلاقات مع إسرائيل احتجاجاً عليه، كان أي رد مختلف ليضعف مصداقية قيادة السلطة الفلسطينية التي لا تحظى أصلاً بشعبية واسعة، وكان ليطلق ردة فعل شعبية غاضبة، لكن لم يكن استنكار عباس للاتفاق قوياً بما يكفي بنظر الرأي العام الفلسطيني على ما يبدو»في بداية شهر فبراير تراجعت نسبة تأييد عباس بخمس نقاط واقتصرت على 37 في المئة».

لكن بما أن الخطة الأميركية كانت مصمّمة كي تُنفَّذ مع أو من دون شريك فلسطيني، لم يكن رد عباس مهماً في مطلق الأحوال، كان الاتفاق مُعَدّاً لضمان فشل الفلسطينيين بغض النظر عن جوابهم.

ولا يستطيع عباس أن يقبل بالخطة الأميركية كأساس للمفاوضات من دون أن يجازف بنشوء اضطرابات إضافية أو حتى بتنحيته من منصبه، لكنه يستطيع إنهاء العلاقات مع إسرائيل شرط أن يكون مستعداً للمجازفة بانهيار السلطة الفلسطينية واندلاع أعمال عنف جديدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لذا يفتقر تهديده بقطع العلاقات مع إسرائيل إلى المصداقية، فخلال العقد الأخير أطلق عباس تهديدات مماثلة وكان القادة الإسرائيليون يكشفون مناوراته في كل مرة.

يأمل عباس على الأرجح أن يكسب الوقت عبر هذا النوع من التهديدات لتهدئة الرأي العام الفلسطيني الغاضب، في حين تكشف استطلاعات الرأي في شهر فبراير أن 94 في المئة من الفلسطينيين يرفضون الخطة وأن دعمهم لحل الدولتين تراجع إلى 39 في المئة، وهي أدنى نسبة منذ توقيع اتفاقيات أوسلو في عام 1993، بدأت التسويات الصعبة التي حصدت دعماً ملموساً في الماضي «بما في ذلك تبادل الأراضي، وإعادة توطين اللاجئين، وتقاسم مدينة القدس القديمة، وفرض ترتيبات أمنية خاصة في غور الأردن» تتحول إلى محرمات لأنها ترتبط راهناً بترامب وخطته.

لا شك أن الرأي العام الفلسطيني والإسرائيلي لم يكن قوة دافعة نحو السلام قبل الإعلان عن خطة ترامب، لكنه بدأ يصبح عائقاً فعلياً أمام السلام الآن.

على الجانب الإسرائيلي، تزيد خطة ترامب جرأة معسكر اليمين الإسرائيلي وتؤجج التوقعات بضرورة أن تلبّي الخطة أكبر قدر من مطالب إسرائيل في جميع المسائل المرتبطة بالصراع، وعلى الجانب الفلسطيني، بدأت المطالبة بقيام دولة واحدة تتضاعف نتيجة توسّع الاستيطان، والتوجه نحو السياسات اليمينية في إسرائيل، وعودة «حماس» إلى الواجهة، وفشل القيادة الفلسطينية في تحدي وضع المراوحة، بدءاً من شهر فبراير الماضي، يظن 61 في المئة من الفلسطينيين أن حل الدولتين لم يعد قابلاً للتنفيذ، ويفضّل 37 في المئة منهم التخلي عن هذه الفكرة ويطالبون بحل مبني على قيام دولة واحدة.

في آخر 15 سنة، بقيت أعمال العنف الفلسطينية ضد إسرائيل تحت السيطرة، لاسيما في الضفة الغربية، وبقي السلام قائماً بشكل عام نتيجة رفض الرأي العام للعنف من الجانب الفلسطيني، وإعادة بناء قطاع أمني عالي الفاعلية يرتبط بالسلطة الفلسطينية ويتعاون مع الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية لفرض النظام، والتخلص من البنى التحتية العسكرية التابعة لحركة «حماس» في الضفة الغربية، لكن من المتوقع أن تتوسع المطالبة بأعمال العنف وسط الفلسطينيين عند تنفيذ الخطة الأميركية.

وتكشف نتائج الاستطلاعات في فبراير أصلاً أن 64 في المئة من الفلسطينيين سيدعمون أي أعمال عنف كرد على خطة ترامب، تتعدد التدابير التي تطرحها الخطة ويسهل أن تزيد دعم العنف بين الفلسطينيين، منها ضم الأراضي الفلسطينية، وبناء مستوطنات واسعة النطاق، وتوسيع المستوطنات القائمة في مناطق ضمّتها إسرائيل إليها أصلاً، وتغيير وضع المراوحة في القدس.

ستؤدي هذه التطورات على الأرجح إلى عسكرة «فتح»، أو حركة الشباب فيها على الأقل، وإعادة بناء البنى التحتية العسكرية في «حماس»، نتيجةً لذلك، من الطبيعي أن تندلع أعمال عنف منظّمة ومتواصلة.

لكن يمكن تجنّب هذا المستقبل القاتم، على الجانب الفلسطيني، يستطيع عباس وحلفاؤه العرب أن يردوا على خطة ترامب عبر طرح اقتراح مضاد ومفصّل بناءً على التقدم الذي أحرزته جولات المفاوضات السابقة ومبادرة السلام العربية في عام 2002، شرط أن يستفيدوا من جهود بناء التحالفات الضمنية بين الإسرائيليين والعرب. في السنوات الثلاث الأخيرة، كانت تلك الجهود مدعومة من إدارة ترامب واشتقت من مخاوف عربية متزايدة، لاسيما في المملكة العربية السعودية والدول الخليجية، حول التهديد الإقليمي الذي تطرحه طموحات إيران النووية، وهي مخاوف تحملها إسرائيل أيضاً، وقد يسمح التعاون الحاصل خلال تلك النقاشات بتعزيز الثقة المتبادلة وتقليص مخاوف إسرائيل من سحب جيشها من الضفة الغربية.

لم يكن تجاهل خطة ترامب للتقدم الحاصل سابقاً في مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين مجرّد مصادفة، يبدو أن مصمّمي الخطة الجديدة استنتجوا أن التنازلات التي قدّمتها إسرائيل في الجولات السابقة من المفاوضات بين عامي 2000 و2014، منها تنازلات وافق عليها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لا يقبلها الإنجيليون الأميركيون وداعمو إدارة ترامب اليمينيون الذين يؤيدون إسرائيل، كذلك، تطالب الخطة بتقديم تنازلات إضافية من جانب الفلسطينيين، ولم يكن جزء منها محورياً بنظر الحكومات الإسرائيلية السابقة، بما في ذلك حكومة نتنياهو.

اليوم أكثر من أي وقت مضى، يتوقف صمود نتنياهو السياسي على دعم المستوطنين القوميين المتدينين الأكثر تطرفاً والأحزاب السياسية الأكثر تعصباً في إسرائيل.

اقتراح فلسطيني مضاد

في هذه الظروف، من الضروري أن يحدد الفلسطينيون المناطق الواردة في الاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي السابق، ويُفترض أن يرتكز أي اقتراح فلسطيني مضاد على وثائق معروفة، مثل معايير كلينتون «التنازلات التي طرحها الرئيس الأميركي بيل كلينتون الأسبق في ديسمبر 2000»، فضلاً عن المسودة التي أعدّتها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس السابقة في عام 2008، وهي توثّق مسار التقدم ونقاط الخلاف بين الطرفين خلال مؤتمر «أنابوليس».

كذلك يجب أن يذكر الاقتراح المضاد الحاجات الفلسطينية الجوهرية في المسائل المتنازع عليها «على غرار حجم تبادل الأراضي ومواقعه» ويوضح السبب الذي يضمن ألا تطرح المواقع الفلسطينية في تلك المناطق أي تهديد على حاجات إسرائيل المحورية، بالتنسيق مع البلدان العربية الكبيرة، ويجب أن تُحدد القيادة الفلسطينية جدولاً زمنياً مفصلاً وإطاراً واضحاً لتنفيذ رؤية سلام إقليمية تضمن اندماج إسرائيل في البنى التحتية السياسية والاقتصادية والأمنية داخل المنطقة، ويُفترض أن يطرح هذا الجانب من الرد الفلسطيني العربي المشترك خطاباً يعكس المنافع المباشرة التي تحصدها إسرائيل والمنطقة عند عقد السلام.

من المتوقع أن يحصد هذا الرد دعم الإسرائيليين الذين يسعون إلى المحافظة على طابع إسرائيل اليهودي والديمقراطي، حتى أنه سيجد الدعم على الأرجح في أوروبا وفي أوساط الديمقراطيين في الولايات المتحدة، يستطيع أي رئيس أميركي ديمقراطي، إذا انتُخِب في وقتٍ لاحق من هذه السنة، أن يضع خطة ترامب جانباً ويطرح اقتراحاً جديداً لسد الفجوة بين الفلسطينيين والإسرائيليين ولتقديم سياسة أميركية أكثر توازناً لحل الصراع القائم.

في المقابل، من المتوقع أن تقضي إعادة انتخاب ترامب على أي فرصة بعقد السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، لاسيما إذا سيطر حزب الليكود اليميني وشركاؤه الأكثر تطرفاً في أوساط الأحزاب الدينية على الحكومة الإسرائيلية المقبلة، ففي ظل هذا السيناريو، ستضطر السلطة الفلسطينية لخوض عملية تفكك تدريجية، ما يعني تحوّل حل الدولة الواحدة إلى واقع ملموس في نهاية المطاف.

خليل شيكاكي *