يعكس اتفاق السلام الجديد بين الولايات المتحدة وحركة "طالبان"، التي اعتبرها الأميركيون حتى الفترة الأخيرة تنظيماً إرهابياً، شكلاً من الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان، كما أنه يشير إلى التخلي عن النساء والأولاد والأقليات الدينية هناك.

لم تكن الحرب الأفغانية تتعلق بكل بساطة بانتزاع وعد مبهم من "طالبان" بعدم السماح للإرهابيين من بلدان أخرى بالتجمّع في أفغانستان، وشن حرب ضد الولايات المتحدة، بل قدّمت "طالبان" ملاذاً آمناً لتنظيم "القاعدة" لأنها تؤيد قناعاته، فكيف يمكن أن يصبّ تطبيع العلاقات مع "طالبان" الآن في مصلحة الأمن القومي الأميركي ما لم تتخلَ الحركة عن تلك الإيديولوجيا بدل أن تكتفي بالتخلي عن جماعات خارجية تشاركها تلك القناعات؟

Ad

حين كانت "طالبان" تسيطر على أفغانستان، بين العامين 1996 و2001، عاش عدد كبير من الأفغان معاناة كبرى، وعلى رأسهم النساء والأقليات الدينية.

مُنِعت المرأة الأفغانية في تلك الفترة من التعلم والعمل، وعلى عكس التقليد الذي يفرض عليها بكل بساطة أن تغطي رأسها، اضطرت في عهد "طالبان" لتغطية نفسها من رأسها إلى أخمص قدمَيها عند مغادرة منزلها، وكانت المرأة التي تتحدى هذه الإملاءات تُعاقَب بتدابير بالية ووحشية، منها الجلد والضرب العلني.

منذ 2001 منحت الولايات المتحدة مساعدات مدنية لأفغانستان بقيمة 29 مليار دولار لتحسين البلد بما يصبّ في مصلحة شعبه، كان هذا الاستثمار يهدف إلى إنشاء بيئة غير حاضنة للإرهابيين.

نتيجةً لذلك، سُجلت أكثر من 3 ملايين فتاة ونصف المليون في المدارس الابتدائية والثانوية وترتاد 100 ألف امرأة الجامعات، كذلك يبلغ عدد الأفغانيات العاملات في مجالات التعليم والمحاماة ووكالات إنفاذ القانون والرعاية الصحية 85 ألفا.

يضمن الدستور الأفغاني الذي أُقر في 2004 بدعمٍ من الولايات المتحدة حقوقاً وواجبات قانونية متساوية بين الرجل والمرأة، ويفرض "تعليماً متوازناً للنساء"، ولا يزال المجتمع الأفغاني إسلامياً ومحافظاً، لكن يسمح إطار العمل الدستوري والقانوني للمدافعين عن حقوق الإنسان ومؤيدي العصرنة الاجتماعية بإصلاح مجتمعهم.

بعد فترة قصيرة على بدء المحادثات بين الولايات المتحدة و"طالبان"، حاولت الحركة استرضاء منتقديها عبر إصدار بيانات مفادها أنها استخلصت الدروس مع مرور الوقت، وأدركت أن المرأة لديها حقوق معينة وفق الشريعة الإسلامية، بما في ذلك الحق بالتعلم والعمل، ووراثة الممتلكات، والقدرة على اختيار زوجها، لكن لا تعبّر الحركة عن ندمها على ما تعتبره دفاعاً عن القيم الإسلامية والأفغانية.

ربما برعت "طالبان" في تحسين صورتها أمام وسائل الإعلام الغربية، لكن من الواضح أن قيمها وقناعاتها الجوهرية لم تتبدل.

خلال المحادثات التي شاركت فيها الحركة، ركّز المفاوضون الأميركيون على مناقشة الانسحاب الأميركي مقابل تعهد "طالبان" بعدم استضافة "القاعدة" مستقبلاً.

لم يكن موضوع النساء والأقليات الدينية في أفغانستان جزءاً من النقاش خلال محادثات السلام المزعومة، ولم يفكر المفاوضون الأميركيون أصلاً بهذه المسألة، حتى الحكومة الأفغانية المُنتَخبة ديمقراطياً بقيت على الهامش.

بعد إنفاق مليارات الدولارات لإعادة بناء أفغانستان وإنشاء مؤسسات ديمقراطية، بدا وكأن الولايات المتحدة أرادت الرحيل بكل بساطة.

تعكس عشرات الاعتداءات التي نفذتها "طالبان" في 24 محافظة أفغانية من أصل 34 بعد وقتٍ قصير على توقيع الاتفاق مدى زيف مفهوم الأمن الضيق الوارد في ذلك الاتفاق بين الولايات المتحدة و"طالبان"، وأسفر هجوم مميت عن مقتل 15 جندياً أفغانياً ودفع الولايات المتحدة إلى شن ضربات جوية "دفاعية".

تُذكّرنا هذه الحادثة بأن السلام لا يمكن شراؤه من الإرهابيين عبر بيع حقوق الإنسان الخاصة بالآخرين، ومن المتوقع أن تتشجّع "طالبان" بعد الاتفاق الذي عقدته مع الولايات المتحدة وتزيد وحشيتها بدل أن تتراجع.

باختصار لا يمكن تحقيق مصالح الولايات المتحدة إلا عبر التمسك بالقيم الأميركية.

*فراهناز إسباهاني