بعد مضي خمس عشرة سنة من ذلك الموقف العالق بالذاكرة، ولأول مرة تنتابني رغبة في البوح بإحدى القصص القصيرة في زمنها والكبيرة بمعانيها بالنسبة إلي.

في عام 2005، وبعد اكتشاف إصابتي بمرض لعين أزعم أنه يفوق الوليد كورونا ذائع الصيت بمراحل، بدأت بتلقي العلاج في الولايات المتحدة، في البدء كان الذهول الصامت سيد الموقف، لذا لم أشعر بشيء سلبي، باشرت الإجراءات وكأنني روبوت ياباني مُتقن الصُنع إلّا في الليلة الأولى، ففور انتهائي من وجبة التونا من مطعم "سب وي" في أحد مجمعات مدينة بافلو القريبة من شلّالات نياغرا ألقيت هاتفي النقّال في القمامة عوضاً عن كيس بقايا الطعام! ولم أكتشف المصيبة إلا عند وصولي إلى سيارة الأجرة، ولكن بعد فوات الأوان، رحل النوكيا الأول مأسوفاً عليه.

Ad

بدأت بتلقي العلاج، وأثناء تلك المرحلة مررت بحالات لا تسعها هذه السطور، اكتسحت إيجابياتها سلبياتها، ولها حديث آخر، وبعد انقضاء 5 جرعات من أصل 6 شعرت بحنين غريب! حنين إلى العربية، حنيني إلى اللغة، الحروف، المذاق، الموسيقى، البشر! خالفت التعليمات الصريحة بعدم السفر والاحتكاك بالبشر، مناعة جسمي آنذاك في أدنى حالاتها، ولكن عنادي له بكل الأشياء علاقة عكسية لا طردية!

سافرت إلى ديترويت-ميتشغان حيث التجمع الأكبر للعرب في الولايات التي اتحدت، كان برنامجي محدداً في بعضه ومتحررا في المتبقي منه، المشوار الأول كان لمكتبة إسلامية لا أود ذكر اسمها، وصلت في الثامنة صباحاً وكانت مغلقة، انتظرت زهاء الساعتين إلى أن فُتحت المكتبة فقمت بشراء بعض الكتب التي لم تكن متاحة في الكويت بفعل الرقابة، وبعد قضاء ساعتين في المكتبة سألت البائع عن أفضل مطعم للكباب في المنطقة فأجاب بثقة: مطعم العُكاشي ملحقاً إياهُ بعض الخيارات الأخرى.

توجهت لذلك المطعم كونه الخيار الواثق الأول، وأثناء تناولي للوجبة الألذ خلال وجودي بالولايات، سمعت بعضاً من النغمات العربية الصادرة من مسجلة معلّقة تتدلى منها الأسلاك أثارت شهيتي السمعية، سألت النادل عن مصدرها فأجاب مشيراً بإصبعه إلى المحل المجاور قائلاً: تسجيلات دجلة!

فور اتجاهي إلى المحل المجاور، وبالرغم من كونه محلاً عراقياً بامتياز فإنني فوجئت بوجود ركن خاص لمسرحية سيف العرب الساخرة من الاحتلال العراقي، سألت البائع العراقي الذي اتضح أنه المالك عن السبب، فأجاب بأنها من الأعمال المفضلة لعراقيي المهجر! وأثناء حديثي معه وتلذذي بشراء أشرطة منعتها الرقابة في بلدي، لم تكن سوى تسجيلات لأغنيات عراقية قديمة سبقت كارثة الاحتلال بعقود طويلة، عقلية الفرمانات تفتقر إلى الوعي البشري، انتبهت لأحد زبائن المحل مطرقاً السمع لحديثي مع البائع/المالك والذي استفسر عن وجودي للمرة الأولى في محله، انتهى حديثي الصادق معه بسؤالي عن إمكانية شرائي لآلة العود في تلك المدينة الأفلاطونية الفاضلة، فأجابني بوجود محل بناصية الشارع متخصص بالآلات الموسيقية العربية، فكان الابتهاج المطلق، أو مطلق الابتهاج!

فور خروجي من المحل مبتسماً، فاجأني الزبون الصامت المنصت بطلب إيصالي لذلك المحل بسيارته، اعتذرت فأصر فقبلت، دار حديث قصير في السيارة، تعرفت على اسمه الذي كان غاية في البعد عن صفاته، عند وصولنا نزل كرّار معي، وفور انتقائي للعود الأكثر ملاءمة للجرعة الأخيرة المتبقية طلب مني الصديق كرّار مرافقته للمنزل لتناول الشاي! وكانت تلك الترقية الأسرع لشخص ما في حياتي.

عند وصولي لمنزله كان الشعور الأول بعد كل تلك الشهور القاسية وكأنني في مشرف الأم، كان الشاي السنقين اللذيذ الذي أعدته أنامل بولندية، وكانت الصحبة غير المتكلفة، وكان الحديث عن غربته الطويلة عن وطنه وأسرته، وعن امتلاكه شاحنة ينقل بها البضائع بين الولايات، قضيت يومين في تلك المقاطعة العربية في قلب الولايات وهو يسعى جاهداً إلى أن يريني كل مكان جميلٍ فيها، في يومين أخذت حاجتي من فيتامين (ع) الذي افتقدته طوال خمسة أشهر سابقة.

انقطع التواصل بيننا بعد أن فقدت بياناته، ولكنه حاضر في بالي على الدوام، لما بذله من عطاء صادق ليسعد شخصا غريبا، مريضا، هزيلا، عديم المناعة قادما إلى مدينته، وها أنا أبوح بهذا الشعور بالاحترام والتقدير الفائقين لشخصك الكريم يا كرّار، عسى أن تصل إليك هذه الأسطر عبر أثير الإنترنت وأنت تكون ومن تحب بخير حال.