تُصنَّف الدول إلى ثلاثة أقسام من حيث طريقة الإدارة واتخاذ القرار، أولها تلك التي تُنعت بأنها دولة مؤسسات، وفي هذا النموذج من الدول تجد سمات الاتساق والتوافق والاستقرار في إدارة الدولة واتخاذ القرار؛ ومسار اتخاذ القرار إما أن يكون أفقياً بتتابع المؤسسات في تناول القضايا واتخاذ كل منها للقرار بشكل متوازٍ، لكنه متكامل وبشروط وضوابط واحدة محددة مسبقة ومعلنة، وإما أن يكون اتخاذ القرار تصاعدياً وبمتوالية تراكمية، أي من الأدنى إلى الأعلى، ويتم ذلك بإجراءات وضوابط مسبقة منفصلة لكن متكاملة.

وثانيها تلك التي توصف بالأحادية (أو الفردية) حيث تغيب المؤسسات وتُختَزل الدولة في الفرد، وفي هذا النموذج من الدول تجد مظاهر الاضطراب والتفاوت والمتناقضات في إدارة الدولة واتخاذ القرار، ومسار اتخاذ القرار يكون رأسياً، إما قسرياً (سلطوياً) أو توجيهياً (مفروضاً)، ويأتي خلواً من الإجراءات والضوابط المسبقة، فتحل مكانها تلك الآنية والهوائية، وهو ما يصيب الإدارة والقرار دائماً بالغموض والارتجال.

Ad

وثالثها تلك التي تعرف بدولة المفاصل الاجتماعية، وفي هذا النموذج من الدول، اللافت جداً هو تعدد مواقع اتخاذ القرار وهشاشتها، فتجدها كأنما هي عدة دول في دولة، فتتحكم بقراراتها تارة طبقة الأثرياء، وتارة المذهبيات الدينية، وتارة المكونات العرقية أو الإثنية، وتارة رابعة المثقفون والمهنيون والحرفيون (ممن تجمعهم سمة الطبقة الوسطى)، فيعتري القرار فيها تفاوت وإشكاليات وتغييرات مستمرة، وفي كل حقبة زمنية أو مرحلية يكون مسار الإدارة والقرار فيها مغايراً ووقتياً، فلا هو أفقي ولا هو رأسي، بل اتجاهاته متضادة، فتفتقد الثقة بالدولة ومؤسساتها ويسود الصراع وتتصدر الفوضى.

ولا ريب في أن النموذج الأول لإدارة الدولة وقرارها هو الذي يحقق متانة الدولة واستدامتها، وتزدهر في ظله أحوال الناس وإسهاماتهم وتقوى الأجهزة وتتطور الأنظمة والأعراف والحقوق والواجبات، وترتسم المؤسسية وتتحدد المسؤوليات، وتتضاءل الأخطاء.

أما في النموذج الثاني فتسود الفردية، وينزوي الناس ويزهو النفاق وتُقدَّس الشخصيات وتُهمَّش الأنظمة، وتهزل الدولة، وتضيع المسؤوليات، فتختفى الرفاهية ويتوقف النماء وتتعاظم الأخطاء.

وأما في النموذج الثالث فتضمحل الدولة وتتشتت ويقلق الناس، وتُبدَّد القدرات، وتُنتَهك الأنظمة، وتتوارى الأعراف، وتختلط المسؤوليات، وتسود العصبيات وتضعف مكونات المجتمع والدولة معاً، وتتوالد الأخطاء وتتضخم آثارها.

وإذا حاولنا أن نقرأ وضع الكويت من خلال الأقسام المختلفة للدول، فستستوقفنا بشأنها حقائق مطمئنة وأخرى مقلقة، فالاطمئنان مصدره الوعي الإيجابي الذي بُنِيت عليه الدولة الحديثة بنقلها من الإمارة العشائرية إلى دولة دستورية ومؤسسية، وبضمانات من المدونات القانونية والنظامية، إذ يتربع قي قمتها دستور ورضائية في اقتسام المسؤوليات بين الأسرة والشعب، والحفاظ على تلك المدونات رغم التجاوز في الممارسات وما تخلفه من معضلات، والقلق مصدره تزايد الخروج على المدونات والجنوح إلى تهميشها، حتى تآكلت السلطات وشُلت عن ممارسة مسؤولياتها، وهزلت في تكوينها، وصار اتخاذ القرار مركزياً، وتراجعت الدولة بشكل مريع.

وصاحب ذلك توسع في الصراع على جميع المستويات، وخصوصاً لدى الشعب، وانتشرت العصبيات وبرزت الاستقطابات وتقلصت الحقوق والحريات، وبُددت الثروات والقدرات، وتعاظمت المحسوبيات والمجاملات، فسادَ الارتجالُ في كل شؤون الدولة وصارت الدولة في مهب الرياح في كل أحوالها، وهو ما نطقت به وأظهرته إدارة وقرارات أزمة وباء "كورونا"، وهو ما بدل حال الكويت من النموذج الأول المقرر في المدونات، وتم السير عليه فترة معقولة من الزمن، لكن التبدل وقع فصارت الدولة تدور في فلك النموذج الثاني والثالث من الدول، ولا تخفى الآثار السلبية لهذا التبدُّل.