في جنازة رسمية وعسكرية وشعبية يوم الأربعاء الماضي ودعت مصر رئيسها الأسبق محمد حسني مبارك، وقد حملت جثمانه، ملفوفاً بعلم مصر، عربة تجرها الخيول، يتقدمها عسكريون بأطواق الزهور وسط عزف الموسيقى العسكرية، مع حملة النياشين والأوسمة التي حصل عليها أثناء خدمته العسكرية.

وأطلقت المدفعية 21 طلقة تحية لقائد من قادتها الذين حفروا أسماءهم في التاريخ في نصر أكتوبر 1973 العظيم، وقد نال هذا التكريم الذي لم ينله أحد من الرؤساء الذين انتفضت عليهم شعوبهم، فهو أول رئيس عربي يتنحى عن الحكم بشرف وأمانة استجابة لنداء الجماهير من شعبه التي خرجت في 25 يناير 2011 تطالب برحيل نظامه، رافضا الرحيل عن وطنه، معتزا بترابه الذي دافع عنه، مؤكدا في خطابه إلى شعبه، أنه سيظل في مصر إلى أن يموت ويدفن في أرضها، رافضا العرض الذي قدم له بأن يغادر مصر تجنبا لمحاكمة قد يتعرض لها، وهو أمر طبيعي عقب كل ثورة.

Ad

وأصر على أن يبقى على أرض مصر التي دافع عن ترابها في حرب أكتوبر، حاكما أو محكوما، مدافعا ومناضلا عن شرفه العسكري وعن أسرته، بخوض حرب جديدة لم يخضها من قبل، ولا يعرف أساليبها وأدواتها، هي المحاكمات التي خاض أوارها على سرير متحرك خرج به من المستشفى الى المحكمة، ليقول لقضاته أمام منصتهم العالية في استهلال دفاعه أمام المحكمة بأنه لن يتحدث اليوم عن عطائه لبلاده، فسيظل لها الفضل علينا جميعا، فهي الوطن والأهل والملاذ وأرض المحيا والممات.

ولم يعرّض بلاده لحرب قادها تحالف دولي، فقضى على جيشه، ولا عرض بلاده للخراب والدمار، بل حرص على عقيدته العسكرية الوطنية ووحدة هذا الجيش، ولم يستقوِ بالخارج للبقاء في الحكم، معرضا بلاده لحرب أهلية، ولخروج الملايين من أبناء شعبه من وطنهم في الشتات.

وكانت مكونات نظام حكمه من أصحاب النفوذ ورجال الأعمال في ظل سيطرة رأس المال على هذا الحكم هي التي نشرت الفوضى في البلاد، وخلقت الفراغ الأمني، وقتلت المتظاهرين لحماية مكتسباتها وإبقاء سيطرتها على البلاد، ولهذا قال في دفاعه سالف الذكر أمام المحكمة التي برأته من هذه التهم إن محمد حسني مبارك الذي يتحدث اليوم أمامكم، لم يكن ليأمر أبدا بقتل المتظاهرين وإراقة دماء المصريين، وهو الذي أفني عمره في الدفاع عن مصر وأبنائها، وأقول أمام الله وأمام الشعب إنني قضيت حياتي مقاتلًا، هكذا كان تعليمي وتدريبي وتلك كانت عقيدتي منذ تخرجي في سلاح الطيران، ولم أكن لآمر أبدًا بقتل مصري واحد تحت أي ظرف، ولم يكن لي أيضا أن أصدر قرارا بإشاعة الفوضى، وقد حذرت منها، ولم أكن لأصدر قرارا بإحداث فراغ أمني، فيعلم الجميع أنني حافظت على استقرار مصر وأمنها الوطني.

ولم يقل لشعبه من أنتم، ولم يصفهم بالجرذان، بل قال في محاكمته سالفة الذكر إنني أدافع عن نفسي اليوم لمواجهة الاتهام، لا أدعي لنفسي الكمال، فالكمال لله وحده، فأنا بشر أصيب وأخطئ، تحملت بشرف وأمانة، وسوف يحكم التاريخ عليَّ وعلى غيري بما لنا وما علينا، ومن المؤكد أن التوفيق لم يحالفني في بعض ما اتخذته من قرارات وهو شيء طبيعي، أو أن بعضها لم يرتق لتطلعات بني وطني، ولكنني أشهد أمام الله أن كل قرار وسياسة انتهجتها إنما ابتغيت فيها صالح الوطن، وأقول مخلصا إنه رغم ما تعرضت له من اتهام وإيذاء، لا أزال شديد الاعتزاز بخدمة بلادي وبني وطني، من أيدني منهم ومن عارضني على حد سواء.

لقد أثبتت هذه الجنازة، وهذا الحزن الذي خيم على الناس جميعا في مصر، أنه لا يزال في قلوب المصريين جميعا من أيدوه ومن عارضوه، وكنت منهم، فهو الذي دافع عن أرض مصر وترابها في الضربة الجوية الأولى في حرب أكتوبر 1973، ليلقن العدو الإسرائيلي المتغطرس الدرس الأول في هذه الحرب، الذي أذهلها وأفقدها صوابها، لتعبر بعد هذه الضربة القوات المصرية، قناة السويس، أخطر وأكبر مانع مائي عبره جيش من الجيوش في الحرب في العالم، ولتدك هذه القوات خط بارليف، بخراطيم المياه الذي أحالته ترابا، وقد كان بارليف، رئيس أركان حرب الجيش الإسرائيلي، يراهن بأن تدمير خطه يحتاج إلى قنبلة ذرية.

اللهم تغمده برحمتك وأنزله فسيح جناتك.