حلّت علينا قبل أيام الذكرى الثامنة عشرة لمحاكمة رئيس يوغوسلافيا الأسبق الملقّب بـ "سفاح البلقان"، سولوبودان ميلوسوفيتش بتُهم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، في كرواتيا والبوسنة وكوسوفو.

حضرتُ جزءاً من محاكمة ميلوسوفيتش، التي كانت نموذجاً لمحاكمة الطغاة في العصر الحديث.

Ad

دافع ميلوسوفيتش عن نفسه، مستخدماً كل أساليب المراوغة السياسية، حتى طال عمر المحاكمة، في الهيغ بهولندا، إلى أن وُجد ميتاً بزنزانته بسكتة قلبية، في مارس 2006 قبل الحُكم عليه.

ظلّت فكرة محاكمة الطغاة حلماً يراود البشر، الذين يؤمنون بأن الإفلات من العقاب سبب رئيسي لعدم الاستقرار في المجتمعات، وبالذات ضد أولئك الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية.

وبعد التحولات الجذرية الكونية، ونهاية الحرب الباردة، واختفاء دول وظهور دول جديدة، وعودة ممارسات لا إنسانية، كالإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، بدأت جهود صغيرة لإنشاء محاكم جنائية دولية خاصة، كمحاكم البوسنة، وسيراليون، ورواندا. إلى أن تم الاتفاق بشأن اتفاقية روما 1998 المُنشئة للمحكمة الجنائية الدولية، لتكون محكمة دائمة، وتنهي المحاكم الخاصة أعمالها.

أنهت محكمة البوسنة أعمالها بحبس كل المتهمين أو موتهم، وكذلك محكمة سيراليون التي كان آخر أعمالها الحكم على رئيس ليبيريا السابق تشارلز تايلور، والتي تسنّى لي حضورها كحدث تاريخي في مايو 2012 ، حيث تم الحكم عليه بالسجن خمسين سنة يقضيها في سجن بأسكتلندا.

عجلة محاكمة الطغاة مستمرة، والملفات الموجودة لدى الادّعاء الجنائي الدولي، تحكي حكايات الظلم والمعاناة في كل مكان، على الرغم من بطئها، وعلى الرغم من تداخلها مع السياسة، ومناصبة العداء لها من خصوم أقوياء.

في هذا السياق، يأتي القبول الأوّلي لفتح التحقيق في انتهاكات إسرائيل، بناء على طلب فلسطيني، وموافقة الحكومة السودانية على تسليم الرئيس السوداني السابق للمحكمة، وحكم محكمة العدل الدولية، الذي يفتح الباب على مصراعيه لإدانة جيش ميانمار بارتكاب جرائم لا إنسانية ضد المسلمين.

لم تكن صيغة اتفاقية روما، المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية، مثالية، بل تضمنت اختلالات كبيرة، أخذاً في الاعتبار قوة ونفوذ المعادين علناً للعدالة الدولية، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، وإسرائيل، وأغلب الدول العربية، وغيرها.

إلا أن النجاحات التي تتحقق على الأرض والواقع، على الرغم من بطئها، تدعو إلى مزيد من العمل لمنع الطغاة من الإفلات من العقاب، وسيظل خصوم العدالة مستمرين بإعاقتها، رغماً عن ادعاءاتهم عكس ذلك، ولا يبدو أن موقفهم سيتغير في المدى المنظور.