مع اقتراب المهلة للتوصل الى اتفاق نهائي ترعاه واشنطن بين مصر واثيوبيا والسودان حول سد النهضة، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، في عددها الصادر أمس الأول، تحقيقاً مطولاً عن السد الاثيوبي، وتأثيره على نهر النيل والعوامل الأخرى التي تهدد تدفقات المياه الى مصر من هذا النهر الأسطوري الذي يمثل هوية مصر ذاتها.

Ad

لم تكن مصر موجودة

وينقل التقرير عن المزارع المصري حامد جارالله قوله إن سبب مشاكله الزراعية هو تناقص الري من نهر النيل الضخم الذي يتعرض بالفعل منذ سنوات للاعتداء بسبب التلوث وتغير المناخ وتزايد عدد سكان مصر، الذي يصل رسمياً إلى 100 مليون شخص الشهر الجاري.

ويشير جارالله، الى كارثة جديدة تلوح في الأفق حيث يهدد سد النهضة الضخم للطاقة الكهرومائية الذي يجري بناؤه على سفح نهر النيل وعلى امتداد 2000 ميل في الأراضي المنخفضة لإثيوبيا، ومن المقرر أن يبدأ تشغيله هذا الصيف، بتقليص إمدادات المياه في مصر. ويقول المزارع "نحن قلقون. لم تكن مصر موجودة بدون النيل. رزقنا يجري تدميره، ربنا يساعدنا".

خزان بحجم لندن

ويشير التقرير، الى أن النزاع بين مصر وإثيوبيا حول سد النهضة الإثيوبي الكبير الذي تبلغ تكلفته 4.5 مليارات دولار، وهو الأكبر في إفريقيا، ويحتوي على خزان بحجم لندن، أصبح من الشواغل الوطنية في كلا البلدين، ما أدى إلى إثارة النزعة الوطنية والمخاوف العميقة بل وحتى نفحات الحرب.

وبالنسبة للإثيوبيين، يعتبر السد رمزاً عزيزاً لطموحاتهم - مشروع ضخم له القدرة على إضاءة ملايين المنازل، وكسب المليارات من مبيعات الكهرباء إلى البلدان المجاورة، وتأكيد مكانة إثيوبيا كقوة إفريقية صاعدة.

وبعد سنوات من التقدم الوعر، بما في ذلك فضائح الفساد والموت الغامض لكبير مهندسيها، يتم تثبيت التوربينات الأولى. ويقول المسؤولون إن السد سيبدأ ملؤه في يوليو.

لكن هذا الاحتمال يثير الرهبة في مصر، حيث ينظر إلى السد على أنه أكثر التهديدات جوهرية. وقال الرئيس عبدالفتاح السيسي في الأمم المتحدة في سبتمبر الماضي: النيل مسألة حياة، مسألة وجود لمصر.

الاتفاق الصعب

ويلفت التقرير الى أنه لمدة 8 سنوات تشاجر مسؤولون من مصر وإثيوبيا والسودان حول السد دون التوصل إلى حل. وبحسب الصحيفة، يعيش 95% من المصريين على طول نهر النيل الذي يوفر كل مياههم تقريبًا. إنهم قلقون من أنه إذا تم ملء السد في إثيوبيا بسرعة كبيرة، فقد يؤدي ذلك إلى تقليص إمدادات المياه بشكل كبير. وفي نوفمبر في محاولة أخيرة، انتقلت المحادثات إلى واشنطن، حيث يتوسط البيت الأبيض.

ويضغط البيت الأبيض للتوصل إلى اتفاق بحلول نهاية فبراير، لكن المسؤولين المصريين والإثيوبيين يحذرون من أن ذلك لن يكون سهلاً.

سادة النيل

ويذكر التقرير أنه طوال آلاف السنين، كان المصريون سادة النيل بلا منازع، حيث كانوا يرسمون النهر لبناء إمبراطوريات قديمة وجمهوريات حديثة. وعبد الفراعنة التماسيح واستخدموا النيل لنقل كتل الغرانيت العملاقة للهرم الأكبر في الجيزة. وفي عام 1970، أشرف جمال عبدالناصر زعيم مصر بعد الاستقلال، على استكمال سد أسوان العالي، وترويض التدفقات الموسمية للنيل وتطوير الزراعة المصرية.

وبررت مصر هيمنتها على النهر من خلال الإشارة إلى معاهدة المياه التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية واتفاقية 1959 مع السودان. لكن إثيوبيا لا تعترف بها وعندما اقترح زعيمها السابق، منغستو هايل مريم، بناء سلسلة من السدود على النيل في عام 1978، واجه تهديدات بالحرب.

حيث قال الرئيس المصري في ذلك الوقت أنور السادات: "لن ننتظر لنموت من العطش في مصر. سوف نذهب إلى إثيوبيا ونموت هناك".

تحذير مشؤوم

ويمتد سد النهضة على النيل الأزرق، الرافد الرئيسي للنهر، الذي يوفر معظم مياه مصر. ويصر أبي أحمد، زعيم إثيوبيا على أن المخاوف المصرية من تأثيره مبالغ فيها. وبعد توليه منصب رئيس الوزراء في عام 2018، توجه أبي إلى القاهرة لتقديم تطميناته وقال للصحافيين "أقسم، أقسم، أننا لن نضر بإمدادات المياه في مصر". لكن بحلول الخريف الماضي، كانت المخاوف تتصاعد مرة أخرى وقدم أبي تحذيراً مشؤومًا.

وقال لـ "المشرعين الإثيوبيين" في أكتوبر، "لا توجد قوة يمكن أن تمنع" إثيوبيا من إكمال السد جاء ذلك بعد أقل من أسبوعين من الفوز بجائزة نوبل للسلام لحل النزاع الطويل بين بلاده وإريتريا. وأضاف أبي أنه إذا كان الأمر يتعلق بالقتال، فلديه "ملايين مستعدون" للحرب مع مصر.

فترة الملء

في حين أن الدولتين تتشابكان حول السد، يقول علماء إن التهديد الأكثر إلحاحًا الذي يواجه النيل ينبع من النمو السكاني وتغير المناخ. حيث يزداد عدد سكان مصر بمقدار مليون شخص كل ستة أشهر وهو معدل مرتفع تتوقع الأمم المتحدة أنه سيؤدي إلى نقص المياه بحلول عام 2025.

ويهدد ارتفاع منسوب سطح البحر ساحل مصر المنخفض ما يفسد الأرض الخصبة. كما أن الطقس المتقلب على نحو متزايد هو خطر آخر.

وتجادل إثيوبيا بأن تخزين المياه في المنبع سيساعد النهر، لأنه أقل عرضة للتبخر منه في مصر الأكثر جفافاً.

ويرى التقرير أن السد اصبح بؤرة قلق مصر من المياه. النقطة الرئيسية العالقة مع إثيوبيا هي مدى السرعة التي ينبغي ملؤها. وتقول إثيوبيا إن ما لا يقل عن أربع سنوات، ولكن مصر، خوفًا من الجفاف خلال فترة الملء، جادلت بأنها تحتاج مدة 12 عامًا أو أكثر.

وبخلاف الحجج التقنية، فإن النزاع مدفوع بالسياسة. الرئيس السيسي، وهو رجل عسكري قوي لا يقبل أن يتعرض أمن مصر للخطر. كما يتعرض الرئيس أبي، الذي يواجه الانتخابات هذا العام لضغوط من الإثيوبيين العاديين الذين ساعدوا في تمويل السد من خلال شراء سندات حكومية. ويحتاج إلى تنفيذ مشروع مرموق في بلد يعتبر نفسه قوة ناشئة.

بالاصافة الى أن إثيوبيا لديها واحدة من أسرع الاقتصادات نموا في العالم. ويوفر السد فرصة ليصبح أكبر مصدر للطاقة في إفريقيا. ومثلما هو الحال في مصر، يعد نهر النيل من الأمور الأساسية لإحساس الدولة بنفسها.

الفقر العدو المشترك

ويذكر التقرير بمقابلة اجرتها "نيويورك تايمز" مع مدير مشروع سد النهضة سيمنغنو بيكليه في عام 2018، قال فيها ان المشروع "سوف يقضي على عدونا المشترك، الفقر". واستشهد بسد هوفر في الولايات المتحدة كمصدر إلهام. وقال "إنه يجعل أميركا أميركا"، مضيفا أنه يأمل أن يفعل سد إثيوبيا الشيء نفسه بالنسبة لبلاده.

وعلى الرغم من النكسات، يقول الإثيوبيون إنهم على وشك الانتهاء من السد. لقد بدأوا في بنائه في عام 2011 في ذروة الربيع العربي، عندما كانت القاهرة لا تزال في حالة اضطراب، وأدت الأعمال العدائية إلى إعاقة المشروع منذ البداية.

ويصر السيسي على أنه يريد حلاً سلمياً، ويشن هجومًا دبلوماسيًا للحصول على دعم جيران إثيوبيا. ويؤكد متحف النيل، الذي تم افتتاحه في أسوان عام 2016، على علاقات مصر مع "إخوانها الأفارقة".

ويختم التقرير بأنه برغم كل المخاوف من سد النهضة والخشية من تأثيره على النيل إلا أن هناك عوامل أخرى أكثر خطورة مثل تغير المناخ وارتفاع عدد السكان والتلوث الذي يضرب النهر العظيم.

(المنيا-مصر)