الهوية، مجموعة السمات الأساسية التي تميز شخصاً أو شعباً أو مجتمعاً عن غيره، وبهذا المفهوم فإن "الهوية الخليجية" مجموعة الخصائص المشتركة التي تميز المجتمع الخليجي عن غيره من المجتمعات، ولا يحمل هذا التمييز تزكية للذات أو استعلاء أو إقصاء للآخر، لكنه تعريف للذات الجمعية، مصداقاً لـقوله عز وجل: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".

الهوية الخليجية ليست مفهوماً مغلقاً، شأنها شأن الهويات الأخرى في حالة تفاعل مع ثقافات العالم، وهي اليوم غيرها بالأمس، والخليج بحكم وضعه الجيو سياسي منفتح على العالم بحكم التجارة أيام اللؤلؤ، وزاد انفتاحه على العالم والاشتباك في قضاياه بعد الثروة الريعية، التي اقتضت تدفق العمالة الوافدة، لضرورات التوسع في مشاريع البنية التحتية والعمران والتنمية، هذا الانفتاح هو الذي ضمن ما ينعم به الخليج من أمن واستقرار وازدهار.

Ad

لكل ما سبق منطقه ومبرراته ومدافعوه، لكننا اليوم في عالم مختلف، عالم يفيض بسكانه ومهاجريه، أصبح يضيق بعضه ببعض، أوروبا ضاقت بالمهاجرين واللاجئين، وصار اليمين الشعبوي الكاره للآخر يكتسب شعبية ونفوذاً، أميركا ترامب تبني حواجز وأسوارا مانعة، الخليج اليوم يشهد تدفقاً بشرياً من دول الفائض السكاني، دول جنوب وشرق آسيا أشبه بطوفان جارف، أصبحنا أقليات في أوطاننا، غرباء في مجتمعاتنا، مما يعد انتهاكا لحقوق المواطنة، وبحسب الإحصائيات السكانية 2018 لمركز أبحاث الخليج الإماراتي، فإن نسبة المواطنين: %62 السعودية، %56 عمان، %46 البحرين، %30 الكويت، %13 قطر، %12 الإمارات، هذه النسب ازدادت انخفاضاً اليوم، وأصبح الخليجيون في بعض دولنا، الأقلية الرابعة والخامسة، هذه نسب مرعبة، يجب أن تشغلنا وتزعجنا، أوروبا مهد حقوق الإنسان والتسامح وقبول الآخر قامت قيامتها بوصول نسب الأجانب إلى %2 من السكان!

هذا المد البشري التسونامي المدمر للمرافق والخدمات شكل عبئاً ثقيلاً، وقفت حكوماتنا عاجزة عن مواكبته، مهما رصدت الميزانيات، وطورت النظم الإدارية، لأن معدلات التدفق البشري أعلى من معدل جهود المواكبة.

هذا التدفق أدى إلى تكدس البشر في العواصم الخليجية، وهذا بدوره جلب كثافة مرورية خانقة، ملوثة للأجواء، وضاغطة على الأعصاب، أفرزت ما يسمى في "أخلاقيات الزحام" مسلكيات فوضوية، تتسم بها المجتمعات المتخلفة، لم يعهدها المجتمع الخليجي قبل، كما أدى التكالب على الخدمات الصحية، أن أصبح المواطن في حالة شكوى وتذمر من الانتظار طويلاً لمقابلة الاستشاري، أو الحصول على غرفة في مستشفى، فيضطر الذهاب للخارج أو العيادات الخاصة، ويَصب جام غضبه على المسؤول الإداري، وهو غير ملوم، كون أعداد المراجعين المرضى أكبر من الطاقة الاستيعابية، وهكذا في كل القطاعات الأخرى: التعليم، القضاء، شؤون البلدية، الأشغال، المرور، التخطيط، التراخيص، تجميل المدينة.

في ظل هذه الاختلالات السكانية يصبح الحديث عن تعزيز "الهوية الخليجية" شعاراً تنظيرياً أجوف أكثر منه واقعاً معيشاً، فأي هوية يمكننا تعزيزها في هذه الأوضاع المختلة "قلة مواطنة وكثرة وافدة"؟!

تحاول العواصم الخليجية، جاهدة، الحفاظ على هويتها، ولكنك عندما تسير في مناطق عديدة منها، تجد نفسك زائراً غريباً، تستحضر قول المتنبي:

وَلَكِنّ الفَتى العَرَبيّ فِيهَا غَرِيبُ الوَجْهِ وَاليَدِ وَاللّسَانِ

مَلاعِبُ جِنّةٍ لَوْ سَارَ فِيهَا سُلَيْمَانٌ لَسَارَ بتَرْجُمَانِ

"فرجان" في مختلف عواصمنا، اقتلعت هويتها الخليجية لحساب هويات أخرى منغلقة، لغات وثقافات وعادات.

لطالما حذر رواد التنمية الأول، قبل (4) عقود، من تداعيات "الخلل السكاني" وانعكاساته السلبية على الهوية وعلى كل أوجه الحياة الخليجية، لكن منطق المصلحة لقلة متنفذة تغلبت على منطق المصلحة العامة، الخلل تفاقم، وصارت عواصمنا مكتظة بخليط من الهويات المتنافرة، تتصارع في رقعة ضيقة، أجواؤها خانقة، مظهرها الحضاري مشوه، والجودة النوعية للحياة متردية.

المحصلة: الدول الخليجية كان بإمكانها بناء نموذجها التنموي الجاذب، بالتركيز على اقتصادات المعرفة، والاستغناء عن نصف العمالة الوافدة، وتخفيف وطأتهم الثقيلة على الموارد والخدمات، واستنزافهم لها.

*كاتب قطري