حكايات غسل الأدمغة عن طريق المحطات المتلفزة العربية والمؤدجلة والمليئة بالشتائم خطاب لا يعرف سوى نشر الكثير من الكراهية، هل من الضرورة أن أكره من أختلف معه؟ وهل من الضرورة أن أشتمه؟ ألا أعرف أن أختلف معه وأرتفع بمستوى حواري ونبضات صوتي؟

لم يعد أحد لا يعي مدى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في نشر مثل هذه الأخلاق والعادات الجديدة، حتى أصبحت تلك الكلمات التي كانت محرمة جداً في الأحاديث اليومية لغة "العصر" وعادية جدا ومقبولة، لا يمكن إلا أن تكون الطفولة وصورها هي التي ترتسم كلما خدشتك كلمة راحت تدور في الفضاء رغم أنك لست المتلقي لها إلا أنها توجع بعنف!

Ad

هذه لغة العصر، بل لغة شباب هذه الأيام، فتيات وفتياناً، تساوت المرأة العربية العصرية في لغة الشارع، ربما محاولة لرد ما تتعرض له من تحرش ومضايقات، فلا يعود أمامها إلا أن تتسلح ببخاخ من خلطة البهارات الحارة، وغيرها من المواد التي يمكن أن تعمي العين حتى لفترة بسيطة مما يمنح الفتاة فرصة للهرب، فهو سلاح دفاعي لا هجومي كما يدّعي البعض، أو أخرى تقف و"تشرشح" المتحرش وغيرها بكلمات تذهله، فيقف خائفاً أو حائراً لأنها هي تخاطبه باللغة التي يفهمها وتشلح عنها عباءة الخجل والرقة التي وصمت بها النساء، وكأنه لا يحق للمرأة أن تختار مسارها في الحياة.

عندما وصل إلى تلك البلاد القريبة كان يحمل بداخله كثيراً من الخوف، وربما أيضا المقت والاحتقار، على أساس أنه قادم من وطن يحترم حقوق الإنسان ويقدرها، حتى وصل صريخ المعتقلين والمحرومين والأمهات والزوجات والأطفال إلى أبعد وادٍ في بقاع الأرض، حيث لا صدى إلا لصوتهم أو صوتهن، مضت أشهر وبعدها كان اللقاء الآخر، وكانت المفاجأة أن الرجل الموقر نفسه، قد حول أو تحول خطابه من الكراهية المطلقة إلى التفهم البسيط، قبل أن ينهي السنة كان قد تعاطف مع عدوه الذي لم يلتقه ولم يعرفه، ولكن ذاك الإعلام ورسائل الواتساب والتويتر صورته على أنه وحش غير آدمي، ألم يقولوا "إن الإنسان عدو ما لا يعرف" أو ربما في هذه الحالة ما لا يعاشر. التنميط والعداء والكراهية هي ليست قدراً أو حتى مصادفةً، بل هي صور يتناولها البعض بسهولة شديدة، وفي كثير من الأحيان بناء على حادثة عابرة أو خبر ملفق وزعته العقول التي أُعدت لتكون على أتم استعداد لتقبل مثل هذه الرسائل المغمسة بالحقد والجهل أو التقسيم، نعم ذاك الذي علمونا إياه ونحن طلاب صغار نجلس على مكاتب خشبية، كل اثنين أو أحيانا ثلاثة على الدرج نفسه، حينها كثر حديث المعلمين عن تفسير تلك الجملة "فرق تسد"!! وها هم فرقوا وحشروا الأفكار حشراً في عقول الصغار والكبار، واستخدموا الخوف من الآخر، أو الخوف مما لا نعرف، والإحساس الدائم بالبقاء في دائرتك الصغيرة التي تعرفها جداً، وتعرف كيف تتعامل معها، وأحيانا تنتقدها، وما تلبث أن تعود لها لأن في تلك البقعة التي رسمت فوق الرمال بصخر التحجر، فيها كثير من الكسل الذي يدفع لإراحة العقل حتى البلادة.

هل هذا غسل للأدمغة؟ ربما العكس، فالغسل هو تعبير عن النظافة، في حين الحشر هو الاتساخ الدائم الذي لا يزيله ذاك المسحوق السحري الذي تروج له تلك الممثلة الجميلة التي كانت تحتل مكانة أكبر قبل الإعلان! هل رأيتم مريل ستريب في إعلان لمسحوق الغسيل الأكثر نظافة؟ إذاً فما يحدث هو في الحقيقة اللعب في حلقة الجهل المختلط بالخوف، والتهديد والوعيد، وبعض ثقافة الطاعة والعبودية لأصنام هم ليسوا إلا بقايا الجاهلية، بل هم الجاهلية الجديدة أو جاهلية ما بعد الهواتف الذكية والسيارات التي تسير على الكهرباء، وكل الآلات الذكية، إلا "البني آدميين"، هم اخترعوها ثم تخلفوا عنها أو استرخوا في مستنقع من القذارة الفكرية واللفظية، ولكنهم تصوروه الريفيرا الفرنسية فسقطوا في المحظور، وهو أن يكرهوا حتى إخوتهم إذا اختلفوا معهم أو خرجوا عن القطيع، واختاروا أن يخلقوا مساحتهم الضيقة خارج الدوائر المريحة والمغلقة.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية