خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتهت أزمة «بريكست»، صح؟ لا... خطأ... هذه ليست النهاية، ولا حتى بداية النهاية، إنها – ربما – نهاية البداية على أيّ حال.

وعلى الرغم من أن بريطانيا خرجت من الاتحاد الأوروبي رسمياً في 31 يناير الماضي، فإن القليل فقط سوف يتغير حتى نهاية هذه السنة. وسوف تظل بريطانيا متمسكة بحرية التعرفة والسوق الواحدة وحرية حركة البضائع والخدمات والأشخاص ورأس المال، إضافة إلى أحكام محكمة العدل الأوروبية. وتهدف هذه المرحلة الانتقالية إلى إعطاء بريطانيا والاتحاد الأوروبي فرصة كافية من أجل ترتيب علاقات ما بعد «بريكست».

Ad

ويريد الاتحاد الأوروبي تمديد الفترة الانتقالية حتى عام 2022 من أجل ضمان الحصول على اتفاق شامل، ولكن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون سبق أن وعد بانهاء المفاوضات بحلول عيد الميلاد المقبل.

أنا مؤرخ يدرس التأثيرات التي سوف يحدثها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على المجتمع والثقافة في بريطانيا. ويبدو من الواضح بالنسبة لي أن جونسون وبريطانيا أمام مشكلتين – الأولى رغبة أنصار «بريكست» بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بسرعة، لكن لديهم مجموعة أهداف مختلفة ومتضاربة يريدون من «بريكست» إنجازها.

مستقبل اقتصادي مختلف

يأمل النقاد الذين يعتقدون أن الاتحاد الأوروبي ينظم الأعمال التجارية بصورة وثيقة أن يفضي «بريكست» إلى اقتصاد يقوم على ضرائب متدنية وحرية للجميع وما يوصف باسم «بريطانيا العالمية».

الشريحة الثانية من مؤيدي «بريكست» التي تشعر بأن بريطانيا تخلت عن سيادتها لمصلحة الاتحاد الأوروبي تريد إعادة تأكيد السيطرة على سياسة الهجرة، وإنهاء التقيد بأحكام محكمة العدل الأوروبية، التي تضع قانون الاتحاد الأوروبي فوق القانون البريطاني.

الطبقة العاملة المؤيدة لـ«بريكست» وخصوصاً المجموعة التي اعتادت على التصويت لجناح يسار الوسط في حزب العمال البريطاني لديها توقعات مختلفة. وهي تأمل العودة إلى فترة الأجور العالية واقتصاد مدفوع بالصادرات، كما كان الحال في الفترة بين عامي 1945 و1979 وتدعم ذلك صناعات مؤممة ومساعدات حكومية للمشاريع الخاصة توفر موجة توظيف كامل وقيام دولة رعاية شاملة.

في الانتخابات العامة التي جرت في شهر ديسمبر عام 2019 توحدت شريحة أولئك الناخبين وأعطت جناح يمين الوسط المحافظ 80 في المئة أكثرية في البرلمان.

وفي عام 2019 أيدت أكثرية طفيفة من المقترعين البريطانيين الأحزاب التي أرادت منع حدوث «بريكست» أو الحفاظ على علاقة وثيقة مع الاتحاد الأوروبي. وتم توزيع تلك الأصوات بين حزب العمال والحزب الوطني الاسكتلندي وحزب الخضر والديمقراطيين الليبراليين.

وعلى أي حال، فإن الناخبين الذين أرادوا «بريكست» – بغض النظر عن الجهة التي صوتوا لها من قبل – كان لديهم خيار واحد فقط وهو التوجه نحو حزب المحافظين.

وجهات نظر متضاربة

حاولت الحكومة البريطانية تحقيق توازن بين المصالح المتباينة لائتلافها الانتخابي. كما وعدت بطرح سياسات تلقى قبولاً لدى الناخبين السابقين في حزب العمال الذين تحولوا في العام الماضي إلى حزب المحافظين وتتمثل تلك السياسات في تقديم مزيد من المال إلى خدمة الصحة الوطنية والاستثمار في المناطق الصناعية الضعيفة.

وإذا كانت هذه خطة جديدة، فإن أحداً لم يخبر عنها وزير الخزانة البريطاني ساجد جاويد الذي صرح في الآونة الأخيرة بأن على بريطانيا أن تبتعد عن «متطلبات تنظيم» الاتحاد الأوروبي، التي تهدف إلى معالجة مشاكل الصحة والسلامة والبيئة.

ويمكن للاتحاد الأوروبي أن يرد بمنع المنتجات البريطانية من دخول أسواقه، مما يزيد احتمالات حدوث ضرر اقتصادي كارثي نتيجة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وعلى أي حال، فإن ذلك سوف يجعل من الصعب على الحكومة تحصيل الأموال اللازمة من أجل دعم وعودها في الانفاق.

توازن القوة

في غضون ذلك، تعكس الصعوبات التي تواجه الحكومة البريطانية الطرق التي طرحتها الأصوات المؤيدة لـ»بريكست» في الحكومة ووسائل الإعلام إلى الناخبين حول العلاقات مع الاتحاد الأوروبي.

من جهة أخرى، من التقليدي أن سياسة بريطانيا إزاء أوروبا لها هدف واضح يتمثل في منع أي قوة واحدة من الهيمنة على القارة. وعلى الرغم من الخلافات الحقيقية حول نتيجة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فإن أنصار «بريكست» يرون الاتحاد الأوروبي في صورة دولة واحدة تهدد المصالح والسيادة البريطانية.

وتنافي نتيجة هذا التحليل وقائع التاريخ، وتقدم بريطانيا في صورة دولة منفصلة عن أوروبا وليست جزءاً من القارة. وفي واقع الحال، انهمكت بريطانيا بشكل دائم في القضايا التي تشهدها أوروبا وذلك بغية تحقيق حصيلتها كما تشاء وترتضي.

وعلى سبيل المثال، في منتصف ثمانينيات القرن الماضي كان الاقتصاد البريطاني ينمو بوتيرة سريعة في حين الاقتصاد الأوروبي كان يتعثر. وفي تلك الفترة جادلت إدارة رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر بأن تجربة بلادها تبرهن على الفارق في ذلك ويرجع إلى الترتيبات المالية وتأميم الصناعات في بريطانيا.

على صعيد آخر، شجعت المملكة المتحدة الدول المجاورة في القارة الأوروبية على اتباع تلك السياسة التي أسفرت عن قيام السوق الواحدة للتعرفة في عام 1993.

منافع بريطانيا

حققت السوق الواحدة مجموعة من الفوائد بالنسبة الى بريطانيا كما أن الاتحاد الأوروبي يشكل في الوقت الراهن 45 في المئة من الصادرات البريطانية من البضائع والخدمات. وترسل بريطانيا إلى أوروبا ما قيمته حوالي 350 مليار دولار في السنة من الأدوية والأغذية والسيارات والخدمات المالية والمنتجات الأخرى.

لكن بمجرد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وبغض النظر عن علاقتها الوثيقة مع السوق الواحدة فيه، فإن نفوذها سوف يضعف بشدة، كما أنها من أجل اقامة علاقة تجارة سوف تضطر إلى قبول القوانين السائدة في الاتحاد الأوروبي، لكنها لن تتمتع بدور في وضع تلك القوانين. وإضافة إلى ذلك، فإن نأي بريطانيا عن الأنظمة والمقاييس الأوروبية سوف يفضي إلى عزلها وإغلاق أسواق القارة في وجهها.

فرص جديدة

يجادل البعض من مهندسي «بريكست» في أن تجدد الروابط والعلاقات مع دول الإمبراطورية البريطانية السابقة – وخصوصاً الهند وما تدعى «أنغلوسفير»– بما في ذلك أستراليا وكندا ونيوزيلندا – يمكن أن يعوض عن خسارة أسواق الاتحاد الأوروبي.

ويسهم هذا الظن في تعميق الحنين إلى الإمبريالية، لكن لسوء الحظ – على أي حال – فإن تلك المشاعر ليست متبادلة من جانب الدول في الإمبراطورية البريطانية السابقة.

وعلى سبيل المثال، فقد تعثرت المحادثات التي جرت في الآونة الأخيرة مع أستراليا حول مطالب بريطانيا لحرية الأشخاص بين القارتين، وشعرت حكومة أستراليا بقلق من أن يفضي ذلك الى انتهاك حقوق العمال البارعين وخاصة الأطباء والممرضين والممرضات الذين يمكن أن يعملوا في هيئة الصحة الوطنية التي تعاني من نقص دائم فيهم.

وتجدر الإشارة إلى أن لدى كندا سوقها الواسع والغني المتمثل في الولايات المتحدة المجاورة.

وإضافة إلى ذلك، أوضحت الهند أن أي اتفاق تجاري يجب أن ترافقه تسهيلات في قيود الهجرة. كما أن واقع الحال يؤكد أن تلك الأسواق ليست مجزية بصورة خاصة وحجم اقتصادات أستراليا وكندا ونيوزيلندا مجتمعة يصل إلى حوالي 3.3 تريليونات دولار وهو 500 مليار زيادة عن الناتج المحلي الإجمالي السنوي في بريطانيا.

ويماثل الاقتصاد الهندي في الحجم اقتصاد المملكة المتحدة – وعلى العكس من ذلك، فإن الاتحاد الأوروبي يحقق أنشطة اقتصادية سنوية تصل إلى 18.7 تريليون دولار.

لكن ذلك كله لا يعني أن «بريكست» لا يمكن أن يعتبر نجاحاً غير أن الواقع هو أن بريطانيا في محنة جيوسياسية فهي تطرح نفسها على شكل دولة – أمة في الوقت الذي يعيد العالم تنظيم نفسه ضمن تحالفات وتكتلات تجارية قوية متعددة الأطراف.

*ليوك ريدر