بعد سنتين من الفوضى والمراوغة، انسحبت بريطانيا أخيراً من الاتحاد الأوروبي، ففي العقود الأخيرة، توسّع هامش الديمقراطية قليلاً في البنية الداخلية للاتحاد الأوروبي، فاكتسب البرلمان الأوروبي مثلاً صلاحيات إضافية مقارنةً بصلاحياته في عام 1990، ومع ذلك يصعب أن نثبت الفكرة الوهمية القائلة إن المواطنين العاديين يؤثرون على ما يحصل في بروكسل، وكما كان الوضع في الأنظمة الملكية الدستورية في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، لا تزال الآلية المستعملة لتحويل آراء الناس إلى سياسة عامة غير مباشرة.

في ألمانيا مثلاً، يصوّت المواطنون لمصلحة حزب معين في الانتخابات الوطنية، ثم يشارك قادة الأحزاب السياسية في عملية معقدة من المفاوضات لتحديد الأحزاب التي ستتولى تشكيل الحكومة وهوية المستشار الألماني، ثم يعيّن ذلك المستشار عدداً من الوزراء، وأخيراً يقصد هؤلاء الوزراء بروكسل في بعض المناسبات سنوياً، حيث يمررون مع نظرائهم من الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي تشريعاً مبنياً على اقتراحات طرحتها اللجنة الأوروبية غير المُنتخَبة.

Ad

في المبدأ، يُفترض أن يوفر البرلمان الأوروبي ثقلاً موازناً لممثلي الحكومات الوطنية الذين يسيطرون على المجلس الأوروبي والبيروقراطيين الذين يديرون اللجنة الأوروبية، لكن تكمن المشكلة في عدم تنبّه المصوتين لحقيقة ما يحصل في المجلس.

حين وصل رجال نافذون، من أمثال فيكتور أوربان وجاروسلو كازينسكي، إلى السلطة للمرة الأولى، طمأن السياسيون الأوروبيون الرأي العام إلى فشل هؤلاء في إحكام قبضتهم على السلطة، وبما أن هذه البلدان منتسبة إلى الاتحاد الأوروبي، كان يُفترض ألا تشهد تراجعاً حقيقياً في طبيعتها الديمقراطية. عملياً، أثبت الاتحاد الأوروبي مراراً وتكراراً أنه لا يهتم بمواجهة الحكام المستبدين الذين وصلوا إلى السلطة في الدول الأعضاء أو يعجز عن مواجهتهم، ووفق بحث جديد أجراه روجر دانيال كيليمان وآخرون، سهّلت عضوية الاتحاد الأوروبي على هؤلاء الحكام النافذين البقاء في السلطة لأنها تسمح لهم بنقل الإعانات الأوروبية في مجالات مثل الزراعة أو البنى التحتية إلى حلفائهم المحليين.

حتى المرحلة الأخيرة، لم توضع أي خطط جدية لطرد البلدان التي تخلّت عن الحكم الديمقراطي من عضوية الاتحاد الأوروبي، ومن المستبعد أن تُعلَّق قدرتها على التصويت في مؤسسات محورية مثل المجلس الأوروبي. قد يزعم السياسيون الأوروبيون أنهم لا يعتبرون هذا الوضع تهديداً جوهرياً على طبيعة الاتحاد الديمقراطية، لكن يصعب أن نتوقع إلى متى سيتحمّل المواطنون الأوروبيون وضع المراوحة.

لقد بُنيت أوروبا المعاصرة في معظمها على يد جيل مبهر من الحالمين ورجال الدولة، فخلال العقود الأولى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ردّ قادة من أمثال كونراد أديناور وجان مونيه على التحديات الهائلة بدرجة عالية من الابتكار، لكن يصعب في المقابل استيعاب حجم شجاعتهم كي يصدقوا أن علاقة صداقة حقيقية ستجمع الألمان والفرنسيين يوماً.

يحب قادة أوروبا اليوم أن يستذكروا أسلافهم العظماء، لكنهم استخلصوا درساً خاطئاً منهم للأسف. بدل التحلي بالقدر نفسه من الشجاعة والابتكار، اعتبروا نظام ما بعد الحرب شكلاً من البقايا المقدسة غير القابلة للتغيير، فاتخذوا لأنفسهم الشعار التالي: لنتابع فعل ما نفعله منذ وقت طويل جداً!

قد ينفع هذا النوع من الجمود موقتاً، فإذا صدّق معظم المواطنين أن السياسيين سيحلون مشاكل الاتحاد في نهاية المطاف، يمكنهم أن يتحملوا شوائب كثيرة، لكن البيروقراطيين في إدارة الاتحاد الأوروبي بدؤوا في هذه المرحلة يفقدون الثقة التي ورثوها منذ فترة.

لإنقاذ المشروع الأوروبي تقضي الطريقة الوحيدة بمعالجة مشكلة الشرعية المزدوجة بطريقة مباشرة.

كذلك، يحتاج الاتحاد إلى محاربة العجز الديمقراطي الذي يطغى على مؤسساته الخاصة. في المجالات التي تفرض على بلدان الاتحاد الأوروبي تقاسم سيادتها، يجب أن يكسب البرلمان الأوروبي نفوذاً أكبر بكثير لرسم عملية صنع القرار، ومن الضروري أيضاً أن تسترجع الدول الأعضاء قدرتها على التحكم في تلك المجالات السياسية حيث يسهل اتخاذ القرارات على المستوى الوطني.

نجح مؤسسو أوروبا في جلب السلام والصداقة إلى قارة عُرِفت لفترة طويلة بالعداء والحروب، ومن واجب جميع الأوروبيين أن يدافعوا عن هذا الإنجاز، لكن لتحقيق هذا الهدف يجب أن يعترفوا أولاً بأوجه القصور التي تشوب الاتحاد الأوروبي راهناً ثم يعملوا على معالجتها بأفضل الطرق.

* ياشا مونك

* «ذا أتلانتيك»