لا يحتاج الإنسان أن يكون خبيرا في التاريخ ليدرك أن الخريطة التي عرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب "كصفقة القرن" تشبه تماما خريطة البانتوستانات أثناء نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، مع فرق واحد وهو أن المعازل الفلسطينية أصغر حجماً، وهي أشبه ما تكون بالجتيوهات، وقد يكون "جتيوستانات" الاسم الأدق لها.

ولم يسهم نشر هذه الخريطة إلا في زيادة استفزاز الفلسطينيين الذين لم يروا في "صفقة القرن" إلا مشروعا إسرائيليا كتب معظمه نتنياهو وغُلف بغلاف أميركي، وجاءت التفاصيل التي نشرت لتؤكد مخاوف الشعب الفلسطيني بأن إدارة ترامب ليست منحازة لإسرائيل فحسب، بل متحالفة مع أكثر الاتجاهات عنصرية يمينية وتطرفا في البنيان السياسي الإسرائيلي. ولم يرَ الفلسطينيون في أفعال إدارة ترامب ونصوص صفقة القرن إلا محاولة فجة لتصفية حقوقهم الوطنية، بما في ذلك تأييد بضم إسرائيل للقدس الشرقية، والاعتراف بها عاصمة موحدة لإسرائيل، ومحاولة تصفية حقوق اللاجئين الفلسطينيين وتصفية وكالة الغوث الدولية، والسعي إلى استبدال فكرة الدولة المستقلة ذات السيادة، بجيتوهات ومعازل مقطعة الأوصال في ما لا يقل عن 224 جزيرة مجزأة بالمستعمرات الاستيطانية، والجدار، ومئات الحواجز العسكرية، ولا تواصل بينها إلا بأنفاق وجسور يستطيع الجيش الإسرائيلي إغلاقها كلما أراد.

Ad

ما رآه الفلسطينيون في صفقة ترامب، محاولة لإلغاء القانون والشرعية الدولية، والقرارات الدولية، بما فيها عشرات القرارات الصادرة عن مجلس الأمن ومئات القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالإضافة إلى قرارات محكمة العدل الدولية والتي تنص على عدم شرعية الاستيطان، وعدم شرعية ضم الأراضي المحتلة، وعدم شرعية الاحتلال المستمر لأرضهم. وبذلك فإن صفقة ترامب صارت محاولة أميركية لتشريع الخطوات الإسرائيلية، غير الشرعية، الموجهة لتدمير إمكانية قيام دولة فلسطينية حرة ومستقلة، واستبدالها بجتيوهات معدومة السيادة، ولا سيطرة لها على حدودها، ولا أمنها، ولا مياهها، ولا طرقها، ولا مصادرها الطبيعية، ولا أجوائها. ولا يرى الفلسطينيون في الواقع فرقا بين الجيتوهات المقترحة كدولة، وبين السجون الإسرائيلية التي دخلها مئات الآلاف منهم، فهي في نهاية المطاف بقع معزولة، ومسيطر عليها أمنيا، وعسكريا، واقتصاديا، واحتماعيا، من قبل الجيش الإسرائيلي. تحدث ترامب عن الأمن الإسرائيلي، ولكنه فشل في أن يذكر ولو مرة واحدة أمن الفلسطينيين، ولا أقصد بذلك الأمن السياسي المتضرر بالاحتلال الأطول في التاريخ الحديث فقط، بل أيضا الأمن الاجتماعي، والاقتصادي، والحياتي.

يغضب الإسرائيليون كلما ذكرناهم بأن ما أنشؤوه في فلسطين هو نظام أبارتهايد، ولكنهم يعجزون عن تقديم وصف مخالف، لتبرير حقيقة أن إسرائيل تستولي على 85% من مياه الضفة الغربية، وتسمح للفلسطينيين باستهلاك 50 متراً مكعباً سنويا في حين يسمح للمستوطن غير الشرعي باستهلاك 2400 متر مكعب سنويا، أما مياه غزة فقد أصبح 95% منها مالحا أو ملوثا، وغير صالح للاستعمال البشري، بسبب الحصار والاستغلال الإسرائيلي.

ويجبر الفلسطينيون على دفع ثمن بضاعتهم بأسعار السوق الإسرائيلية بسبب الوحدة الجمركية والضرائبية المفروضة عليهم من إسرائيل، في حين يزيد الدخل القومي الإسرائيلي على عشرين ضعف مثيله الفلسطيني. وفي خريطة ترامب تترسخ طرق الفصل العنصرية في الضفة الغربية، المحتكرة من الإسرائيليين، والمحرمة على الفلسطينيين، والتي صارت تشكل جزءا من منظومة الأبارتهايد الإسرائيلية. لم يرَ الفلسطينيون في مشروع ترامب سوى تدمير لحل الدولتين، الذي ضغط المجتمع الدولي على الفلسطينيين للقبول به، لإنشاء منظومة أبارتهايد وتمييز عنصري كريه.

الجتيوستانات، أو البانتوستانات، والأبارتهايد ليست حلا، وإذا قضي على إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة حرة وذات سيادة، فلن يكون أمام الفلسطينيين سوى النضال من أجل دولة واحدة ديمقراطية يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات على كامل أراضي فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر. وقد ألحق ترامب ونتنياهو ضررا كبيرا من خلال مشروع "الصفقة" ليس بالفلسطينيين فقط، بل بالإسرائيليين أيضا الذين لن يستطيعوا أن يفخروا بأنهم أنشؤوا نظام الأبارتهايد الأقبح في القرن الحادي والعشرين، ولن يستطيعوا منع الفلسطينيين من إسقاطه في كل أرض فلسطين التاريخية.

* الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية