"إن الدول العظمى لا تخوض حروبا لا نهاية لها"، هكذا أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في خطاب حالة الاتحاد عام 2019، الواقع أنه محق: فقد أسهم التورط العسكري في الشرق الأوسط في الانحدار النسبي للقوة الأميركية وعمل على تسهيل صعود الصين القوي، ولكن على الرغم من ذلك، وبعد مرور أقل من عام واحد من ذلك الخطاب، أصدر ترامب أمرا باغتيال القائد العسكري الأقوى في إيران، الجنرال قاسم سليماني، الأمر الذي دفع بالولايات المتحدة إلى حافة حرب أخرى، وهذا هو مدى قوة إدمان أميركا على التدخل في الشرق الأوسط المبتلى بالتقلبات المزمنة.

لم تعد للولايات المتحدة مصالح حيوية معرضة للخطر في الشرق الأوسط، فبفضل اكتشافات النفط والغاز الصخري أصبحت الولايات المتحدة مستقلة في تلبية احتياجاتها من الطاقة، وعلى هذا فإن حماية إمدادات النفط القادمة من الشرق الأوسط لم تعد ضرورة استراتيجية، والواقع أن الولايات المتحدة حلت محل إيران كمصدر مهم للنفط الخام والمنتجات البترولية للهند، ثالث أكبر مستهلك للنفط بعد أميركا والصين، علاوة على ذلك، لم تعد إسرائيل، القوة العسكرية الرائدة في المنطقة (والوحيد المسلحة نوويا)، تعتمد على الحماية الأميركية اليقظة.

Ad

غير أن الولايات المتحدة لديها مصلحة حيوية في مقاومة الجهود التي تبذلها الصين لتحدي المعايير الدولية، بما في ذلك من خلال النزعة التحريفية على الأرض وفي البحر، ولهذا السبب وَعَد باراك أوباما، سَلَف ترامب، بتحويل "المحور نحو آسيا" في وقت مبكر من رئاسته.

لكن أوباما فشل في مواصلة خططه لتحويل تركيز السياسة الخارجية الأميركية بعيدا عن الشرق الأوسط، على العكس من ذلك، قام باراك أوباما الحائز جائزة نوبل للسلام بشن حملات عسكرية في كل مكان، من سورية إلى العراق إلى الصومال واليمن، وفي ليبيا نثرت إدارته بذور الفوضى بالإطاحة بالرجل القوي معمر القذافي في عام 2011، وفي مِصر أشاد أوباما بخلع الرئيس حسني مبارك في عام 2011.

ومع ذلك في عام 2013، عندما أطاحت المؤسسة العسكرية بخليفة مبارك المنتخب ديمقراطيا، محمد مرسي، اختار أوباما عدم التدخل، رافضا الاعتراف بأن ما حدث انقلاب، واكتفى بتعليق المساعدات الأميركية لفترة وجيزة، وقد عكس هذا عادة إدارة أوباما في عدم التدخل الانتقائي، وهو النهج الذي شجع الصين، المنافس الرئيس للولايات المتحدة لفترة طويلة، على أن تصبح أكثر عدوانية في السعي إلى تحقيق مطالباتها في بحر الصين الجنوبي، بما في ذلك بناء وعسكرة سبع جزر صناعية.

كان المفترض أن يعمل ترامب على تغيير هذه الحال، فقد سَـخـر على نحو متكرر من التدخلات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط باعتبارها إهدارا هائلا للأموال، مدعيا أن الولايات المتحدة أنفقت 7 تريليونات دولار منذ الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر 2001. (يقدر مشروع تكاليف الحرب في جامعة براون الرقم بنحو 6.4 تريليونات دولار). في عام 2018 قال ترامب: "لم نحصل على شيء. لا شيء غير الموت والدمار، إنه شيء فظيع".

علاوة على ذلك، تميز استراتيجية إدارة ترامب للأمن الوطني الصين بوصفها "منافسا استراتيجيا"، وهي التسمية التي غيرتها لاحقا إلى الوصف الأكثر فظاظة "العدو"، وقد وضعت استراتيجية لكبح جِماح العدوان الصيني وخلق منطقة "حرة ومفتوحة" في المحيط الهادئ الهندي تمتد من "بوليود إلى هوليود".

مع ذلك، وكما هي الحال غالبا، جاءت تصرفات ترامب متناقضة بشكل مباشر مع كلماته، فعلى الرغم من خطابه المناهض للحرب، قرر ترامب تعيين مساعدين من كبار المروجين للحرب مثل وزير الخارجية مايك بومبيو، الذي وُصِف بأنه "صقر ينضح بالتبجح والطموح"، ومستشار الأمن الوطني السابق جون بولتون، الذي كتب في عام 2015 مقالا افتتاحيا بعنوان "لمنع قنبلة إيران، فلنقصف إيران".

ربما لا يكون من المستغرب إذاً أن يلاحق ترامب بلا داع نهجا عدائيا في التعامل مع إيران، بدأ التصعيد في وقت مبكر من رئاسته، عندما سحب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران لعام 2015 (الذي لم تنتهكه إيران)، وأعاد فرض العقوبات، ومارس الضغوط على حلفاء أميركا لحملهم على الاقتداء به، علاوة على ذلك، منذ شهر مايو الماضي، نشر ترامب قوات إضافية قوامها 16500 جندي في الشرق الأوسط وأرسل قوة حاملة طائرات ضاربة إلى الخليج الفارسي، بدلا من إرسالها إلى بحر الصين الجنوبي، وكان اغتيال سليماني جزءا من هذا النمط.

مثل كل تدخلات أميركا السابقة في الشرق الأوسط، كانت سياستها في التعامل مع إيران هَـدَّامة إلى حد مذهل، فقد أعلنت إيران أنها ستتجاهل حدود تخصيب اليورانيوم المنصوص عليها في الاتفاق النووي، كما تسببت عقوبات ترامب في زيادة فاتورة استيراد النفط التي يتحملها حلفاء الولايات المتحدة مثل الهند، فضلا عن تعميق العلاقات بين إيران والصين، التي استمرت في استيراد النفط الإيراني من خلال شركات خاصة واستثمار مليارات الدولارات في قطاعات النفط، والغاز، والبتروكيماويات الإيرانية.

بعيدا عن إيران، فشل ترامب في انتشال الولايات المتحدة من مستنقع أفغانستان، أو سورية، أو اليمن، وواصلت إدارته دعم حملة القصف التي تقودها المملكة العربية السعودية ضد المتمردين الحوثيين في اليمن بالغارات والضربات العسكرية الأميركية، ونتيجة لهذا، يعاني اليمن أزمة إنسانية هي الأسوأ في العالم.

أصدر ترامب الأمر إلى القوات بمغادرة سورية في أكتوبر الماضي، ولكن في ظل قدر ضئيل للغاية من التخطيط الاستراتيجي، حتى أنه ترك الأكراد- الحليف الأكثر ولاء لأميركا في القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)- مكشوفين للهجوم من قِبَل تركيا، وهذا، إلى جانب جهوده الرامية إلى عقد الصفقة الشيطانية مع حركة طالبان الأفغانية (المسؤولة عن أكثر الهجمات الإرهابية دموية وفتكا)، يهدد بإهدار إنجازه الوحيد في الشرق الأوسط: تقليص توسع تنظيم داعش الإقليمي بشكل كبير.

وازداد الطين بَلة عندما وافق ترامب، بعد أمره بخفض القوات في سورية، على مهمة عسكرية لتأمين حقول النفط في البلاد، كما دفع التثبيت المفرط على النفط ترامب في إبريل الماضي إلى تأييد أمير الحرب الليبي خليفة حفتر، عندما بدأ حفتر يفرض الحصار على العاصمة طرابلس.

من غير المرجح أن تغير إدارة ترامب مسارها في أي وقت قريب، والواقع أنها الآن أعادت تعريف منطقة المحيط الهادئ الهندي على أنها تمتد "من كاليفورنيا إلى كلمنجارو"، لكي تشمل بهذا الخليج الفارسي على وجه التحديد. وبهذا التغيير، تحاول إدارة ترامب التمسك بذريعة مفادها أن تدخلاتها في الشرق الأوسط تخدم أهداف السياسة الخارجية الأميركية، في حين أنها تقوض هذه الأهداف في حقيقة الأمر.

ما دامت الولايات المتحدة غارقة في "حروب لا نهاية لها" في الشرق الأوسط، فلن تتمكن من معالجة التهديد الذي تفرضه الصين على النحو اللائق، وكان المفترض أن يدرك ترامب هذه الحقيقة، ومع ذلك يبدو أن التزام إدارته بجعل منطقة المحيط الهادئ- الهندي منطقة حرة ومفتوحة من المرجح أن يفقد مصداقيته، في حين يبدو من الواضح أن حلقة التدخلات الأميركية الهازمة للغرض منها في الشرق الأوسط ستستمر.

* براهما تشيلاني

* أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز بحوث السياسات في نيودلهي، وزميل أكاديمية روبرت بوش في برلين، ومؤلف تسعة كتب منها "الطاغوت الآسيوي"، و"المياه: ساحة المعركة الجديدة في آسيا".

«بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»