بين ليلة وضحاها، لم تعد خطة «بريكست» تطغى على السياسة البريطانية، بل أصبحت في طي النسيان فجأةً، فبعد صدور النتائج الانتخابية المُزَلزلة في 12 يناير أصبحت «بريكست» المسألة التي يرفض الجميع مناقشتها، بما في ذلك بوريس جونسون، إنه وضع مريح على مستويات عدة، لا سيما بالنسبة إلى المعلّقين السياسيين.

يفرض انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على الحكومة سلسلة من القرارات المحلية الكبرى وغير القابلة للتأجيل، لا سيما إذا تمسّك المعنيون بمهلة 31 يناير المقبل لإنهاء المرحلة الانتقالية، إذ تتعدد القرارات المطلوبة على مستوى سياسة الهجرة، والسياسات التنظيمية في قطاعات مثل الخدمات المالية، ومستقبل الزراعة وصيد الأسماك، ووضع حقوق الإنسان في بريطانيا بعد «بريكست»، لكنّ الموضوع المتفجر الحقيقي يتعلق على الأرجح بضرورة أن تعالج الحكومة الضغوط التي تتعرض لها الوحدة البريطانية بعد «بريكست»، انطلاقاً من إيرلندا الشمالية واسكتلندا تحديداً، ومن ويلز والمناطق الإنكليزية أيضاً.

Ad

من بين هذه المسائل الأساسية كلها يواجه جونسون معضلات هائلة، فيتعين عليه أن يعقد الاتفاقيات، ويحافظ على ثقة الآخرين، ويتابع إرضاء قاعدته المؤيدة للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ويتجنب أي استفزازات غير مبررة للأطراف التي يحتاج إلى دعمها في ملفات أخرى، كذلك يجب أن يخدم المصالح الحزبية والاقتصادية والمحلية والدولية في كل مسألة من تلك المسائل، تزامناً مع التكيف مع أي أحداث غير متوقعة. لقد انقلب الوضع بالكامل بسبب «بريكست»، سواء رَضِي بذلك أو لم يفعل.

طرح مؤتمر دافوس الأخير نموذجاً كلاسيكياً عن الأثر المعقد والجاذب لخطة «بريكست» في مختلف جوانب السياسة البريطانية، وتخضع بريطانيا لضغوط الاتحاد الأوروبي و»منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» لتأجيل ضريبتها المُخطط لها على الخدمات الرقمية التي تقدّمها شركات أميركية عملاقة، كي يتمكن صانعو السياسة من فرض نظام دولي صارم من الضوابط، إذ سبق أن اتخذت فرنسا خطوة مماثلة قبل أيام.

لكن تتعلق المشكلة السياسية الحقيقية بتركيز حكومة جونسون في المقام الأول على الالتزام بخطابها عن استرجاع السيطرة على الوضع، فهي تعجز عن العمل إلى جانب الاتحاد الأوروبي لإنشاء نظام فاعل ضد شركات التكنولوجيا الخارجة عن القانون لأن بريطانيا باتت مضطرة لاتخاذ قراراتها بنفسها، لكنها لا تستطيع التراجع عن الضريبة التكنولوجية البريطانية أيضاً، لأنها لا تريد أن تظهر بصورة الدولة الراضخة لدونالد ترامب، ونتيجةً لذلك أصبح جونسون في موقفٍ يستوجب رداً أميركياً ويُرسّخ انفصاله عن الاتحاد الأوروبي.

يُعتبر الخلاف حول ضريبة الخدمات الرقمية مجرد جزء بسيط من خلافات كثيرة أخرى تفرض على حكومة جونسون اتخاذ قرارات حاسمة لتحديد وجهة مصالحها الحقيقية، وتدخل مواقف جونسون حول شركة «هواوي» والعلاقات مع إيران في الخانة نفسها أيضاً، كذلك تتعدد المسائل المُدرَجة في هذا الإطار محلياً، منها التردد حول مشروع السكك الحديدية العالية السرعة، ومستقبل مطار هيثرو، وميزانية ساجد جاويد في شهر مارس، وهذه الملفات كلها تتطلب قرارات قاسية على حزب المحافظين.

لكن لا يمكن أن تتجاهل الأحزاب السياسية الأخرى الرابط بين «بريكست» وهذه الخيارات الواقعية، وهذا الوضع لا يطرح مشكلة على أحزاب المعارضة التي تثق حتى الآن بمواقفها الرافضة لخطة «بريكست»، على غرار «الحزب الوطني الاسكتلندي»، لكن حزب «العمال» في المقابل يواجه مشكلة حقيقية، وبغض النظر عن هوية زعيمه الجديد، يبدو أنه بأمسّ الحاجة إلى وضع سياسة مناسبة للتعامل مع أوروبا بعد «بريكست» وطرح خطاب واضح حول بريطانيا و»بريكست» معاً، لكنه لم يُقدِم على أي خطوة مماثلة حتى الآن، ولذلك يجب أن تستمر الحياة رغم هذه الأجواء الخانقة ويتجدد النقاش حول مكانة بريطانيا في العالم ووجهة البلد في المرحلة المقبلة.

* مارتن كيتل

* «الغارديان».