في «مكتب ثقافي» متواضع للحرس الثوري الإيراني بجنوب طهران، تحت إدارة محاربين قدامى شاركوا في الحرب الإيرانية- العراقية، عُلّق على الجدار مُلصق عليه صور مئة رجل تقريباً يقال إنهم «قادة شهداء» في فرع واحد من الحرس الثوري الإيراني. يقول أحد المحاربين هناك بكل فخر: «سقط لنا قادة في الحرب أكثر من أي جيش آخر بعشرين مرة على الأقل»!

كان قاسم سليماني المثير للجدل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، وهو زعيم عادي واستثنائي في آن. اعتُبِر أحد القادة الشباب «العظماء» الذين حاربوا في الحرب الإيرانية- العراقية، ثم أصبح عنصراً في الحرس الثوري في بلدته الأم كرمان، وترقى تدريجيا إلى أن وصل إلى أعلى مراكز القيادة بالطريقة التي يتدرّج فيها جميع الحراس، في ظل غياب أي تسلسل هرمي منهجي وتدريب احترافي: يكفي أن يتمتع العنصر بالتفاني وروح المبادرة، ويميل إلى اتخاذ خطوات جريئة ومستقلة.

Ad

كان عمل الحرس الثوري الإيراني مبنياً على هذه الآلية في سنواته الأولى، نشأ هذا الحرس في الأصل على شكل ميليشيا غير احترافية ومبنيّة على جمع المتطوعين، ثم طُرِح بعد ثورة عام 1979 كقوة انتقالية لفرض النظام وقمع الانتفاضات المعادية للثورة، إلى حين حشد الشرطة والجيش مجدداً. لكن حين وجد المحافظون والمتطرفون صعوبة في الوصول إلى السلطة في بداية الثمانينيات، اتخذ الحرس الثوري الإيراني طابعاً مؤسسياً على شكل ميليشيا متطرفة، ثم اكتسب طابعاً عسكرياً موازياً للجيش الإيراني النظامي. وبسبب صراع القوة نفسه، افتقر الحرس إلى الدعم المالي والتقني كي يصبح محترفاً بالكامل. لكن لم يشعر القادة والمتطوعون الشباب المندفعون بالحاجة إلى تطوير أنفسهم.

مع مرور الوقت، وبعد خوض التجارب واكتساب الخبرة، طوّر الحرس الثوري الإيراني نظاماً هرمياً غير رسمي، بناء على روابط قوية من الثقة بين النظراء والعناصر. سرعان ما اكتشف نظاماً غير رسمي انطلاقاً من الفوضى السائدة في ساحة المعركة وربط هذه العقلية بالمصداقية الثورية. على مر الصراعات المحلية وخلال أولى سنوات الحرب الإيرانية - العراقية، لم يحافظ الحرس على تماسكه في ساحات المعارك بفضل سلسلة مركزية وشفافة من القيادة التي تُصدِر الأوامر لمختلف العناصر (حتى أنه لم يستعمل أي شارة عسكرية إلا بعد الحرب)، بل تماسكت المنظمة بفضل روابط الثقة الحقيقية بين العناصر، علما بأنها ترسّخت نتيجة التمسك بالمبادئ الدينية والثورية.

كان سليماني شخصية نموذجية في نظر جماعة تحمل هذه الصفات كلها، في ساحات المعارك خارج الحدود، تبنى هذا الأخير السلوك الذي يشيد به المحاربون الإيرانيون القدامى وينسبونه إلى قادتهم ورفاقهم المقاتلين الذين لقوا حتفهم: لطالما شارك في القتال على الجبهة بكل شجاعة وإخلاص، وكان يحمل قناعات ثورية شيعية قوية، ويعيش حياة متواضعة، ويعامل رجاله بالتساوي، ويظهر في معظم الأوقات بالزي الكاكي البسيط الذي يرتديه جنود المشاة.

إنه «الحج قاسم» بنظر أعضاء الحرس الثوري الإيراني في فيلق القدس وخارجه، ومثلما كانوا ينادون قادة الحرب الآخرين، منهم الآغا محسن (الجنرال محسن رضائي)، أو رحيم (الجنرال رحيم صفوي)، أو الأخ حسن (الجنرال حسن باقري)، لطالما استعمل العناصر العاديون اسم سليماني الأول لمناداته، في دلالةٍ على ارتباطهم العاطفي به.

لكنّ الساحة التي حارب فيها سليماني والسياق التنظيمي الذي أسّسه وتمسّك به لا يشبهان ما كان سائداً في الثمانينيات، فهو اتخذ مساراً جديداً وحدد أبعاداً تنظيمية مستحدثة عن طريق فيلق القدس وخططه التوسعية في الشرق الأوسط. تاريخياً، صُمِّم الحرس الثوري الإيراني لسدّ أي ثغرة في القيادة فوراً، لكن سرعان ما اكتسب قائد فيلق القدس أهمية شخصية تفوق المنظمة التي ينتمي إليها.

كان سليماني، بصفته قائد فيلق القدس، المسؤول الحقيقي عن قوات الحرس الثوري الإيراني، وحتى مختلف الميليشيات المنتشرة في أنحاء المنطقة. يُقال إن فيلق القدس يتألف من عشرات آلاف الأعضاء الإيرانيين، ويشكّل هؤلاء جزءاً من تاريخ الحرس المؤسسي ويميلون إلى إقامة روابط قوية مع أي قائد جديد. هم يلتزمون بالمنظمة ككل وبالمرشد الأعلى الإيراني باعتباره كبير القادة. قد يشتاقون إلى سليماني شخصياً، لكنهم سيقيمون على الأرجح علاقة وثيقة وصادقة مع خلفه.

لكن كانت مهمة سليماني الأساسية، لا سيما في الشرق الأوسط بعد اعتداءات 11 سبتمبر، تقضي بتقوية ونشر الميليشيات المدعومة من إيران في الخارج. تكون هذه الميليشيات، بما في ذلك فروع متعددة من «قوات الحشد الشعبي» العراقية، موالية لإيران، نظراً إلى الدعم المالي والتقني الذي تتلقاه.

لكنّ القوة التي تُشكّلها هذه الجماعات معاً تبقى متصدعة ومتنوعة ومتبدّلة. لا تحمل الميليشيات الإقليمية تاريخ الحرس الثوري الإيراني المبني على ترسيخ الالتزام الثوري ولا روابط الثقة التي تتشكل بسهولة بين عناصره.

على مر السنوات، طوّر سليماني روابط مماثلة تدريجا مع عدد كبير من القادة وقواتهم، علما بأن هذه العلاقات لا تنشأ تلقائياً بين الطرفَين. لذا من المتوقع ألا يتكيف خلفه مع الوضع بسهولة، كما فعل القائد الجديد للحرس الثوري الإيراني خلال الحرب الإيرانية - العراقية، لأن السياق التنظيمي ليس ودّياً جداً بكل بساطة.

كذلك، لم يكن دور سليماني يقتصر على قيادة العمليات في ساحة المعركة، فقد كان يخدم مصالح إيران أيضاً باعتباره خبيراً في الأمن الجيوسياسي، ولطالما تمتّع بهامش كبير من الاستقلالية. لذا عُرِف كخبير استراتيجي براغماتي وتواصل مع شخصيات عالمية، بدءاً من الرئيس السوري بشار الأسد ورئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، وصولا إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس القيادة المركزية الأميركية. وحين تبرز قضية مشتركة بين إيران وبلدان أخرى، اعتُبِر سليماني الرجل الذي يملك الموارد اللازمة، ويتمتع بالعقلية العملية والاحترافية المطلوبة، بغضّ النظر عن الاختلافات الأيديولوجية بين مختلف الأفرقاء. لذا قد يجد خلفه صعوبة في بلوغ مكانته كشخصية سياسية إقليمية.

تطوّر الحرس الثوري الإيراني بناء على نظام يتدرج من أسفل المراتب إلى أعلاها، ولا يتكل على شخصية محورية واحدة، بل على قوة العلاقات الشخصية القائمة على الثقة. لا شك في أنه سيفتقد الجنرال قاسم سليماني باعتباره قائداً جذاباً ورمزاً لنفوذ المنظمة. لكن بنظر أعضاء الحرس، يبقى هذا الرجل مجرد «أخ» سيتم استبداله بإخوة متفانين آخرين. بالتالي، لن تضطرب بنية المؤسسة لأي سبب.

أخيراً، كانت مكانة فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني وعلاقته بجهات عسكرية وسياسية أخرى في الشرق الأوسط تتكلان على شخص سليماني، لذا سيشعر المعنيّون بغيابه حتماً، في حين يحاول الإيرانيون وحلفاؤهم تحقيق مصالحهم في منطقةٍ تشهد تقلبات متواصلة مع مرور كل يوم جديد، وسط انتفاضات شعبية بارزة في العراق ولبنان، وإصرار الأميركيين على تقليص عدد عناصرهم في المنطقة، والتوتر المحتدم والكارثي بين إيران والولايات المتحدة رغم احتوائه مؤقتاً.

*مريم علم زاده