لا يمكن قراءة مشروع ميزانية الكويت للسنة المالية 2020 /2021 دون إلقاء الضوء على الحل الحكومي المقترح لسد العجز المفترض ما بين الإيرادات والمصروفات، والمتمثل في تمرير قانون «الدين العام» لرفع سقف الاستدانة من 10 مليارات دينار إلى 25 ملياراً، بالتزامن مع مد أجل السداد من 10 سنوات إلى 30 عاماً، وما يترتب عليه من التزامات ومخاطر مع مقاربة لدول استسهلت الاقتراض لتمويل إنفاقها الجاري، فوقعت في محظور العجز عن السداد وما ينتج عنه من تعثر وتضخم وبطالة وخفض لقيمة العملة تصيب الدولة ومواطنيها والمستثمرين فيها.

فحسب بيانات بنك الكويت المركزي لعام 2019 يبلغ رصيد الدين العام «الاستدانة الحكومية» 5.83 مليارات دينار، بواقع 3.39 مليارات ديوناً خارجية و2.44 مليار ديوناً محلية، مما يعني أن حصة المواطن من الدين العام تبلغ 4117 ديناراً، في حين كانت حصته من الدين العام قبل تراجع أسعار النفط بحدة في السنة المالية 2014/ 2015، مما ترتب عليه من اصدارات دين وسندات وصكوك، 1159 ديناراً، وهو ما يعني أن تراجع أسعار النفط وما تبعه من استدانة للدولة رفعت نصيب المواطن من الدين العام 355 في المئة خلال 5 سنوات، وهذه رغم أنها حسبة افتراضية تماماً كالعجز المتوقع في الميزانية، فإنها من ناحية تعطي تصوراً عن محدودية الحلول الحكومية في مواجهة تراجع أسعار النفط وتطرح من ناحية أخرى سؤالاً عن مدى الأثر السلبي على الاقتصاد والمواطنين إذا استمرت آليات الإنفاق العام متصاعدة بالتوازي مع استمرار تراجع أسعار النفط مع اعتماد الاستدانة طريقاً سهلاً للمعالجة.

Ad

قابلة للتضاعف

بالطبع، فإن إقرار قانون للدين العام قالت وزيرة المالية إن «الحكومة ستقاتل لتمريره في مجلس الأمة»، سيرفع نصيب المواطن من الدين العام- في حال اقتراضه كاملاً- بما يوازي 6 مرات تقريباً، أي إلى 24.7 ألف دينار، وهو ما يشكل 88 في المئة من نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وهو معدل مرتفع مقارنة بشح تنوع الاقتصاد ومخاطر إنفاقه في المصروفات الجارية بلا عوائد مالية أو تنموية.

ليس عيباً

والاستدانة بحد ذاتها ليست عيباً أو خطاً أو أزمة، فالعديد من الاقتصاديات العالمية الكبرى ترتكز على الدين السيادي لتمويل مصروفاتها، بل إن قائمة الدول الأكثر استدانة في العالم تتصدرها الولايات المتحدة واليابان وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وهي كلها تستخدم الأموال المتأتية من الاقتراض في تحفيز الاقتصاد، إذاً فالمشكلة هنا تتعلق بكيفية استخدام أموال الاقتراض لا الاقتراض في حد ذاته.

فنزويلا واليونان

لكن في المقابل، هناك نماذج مؤلمة لدول استسهلت الاستدانة غير الرشيدة فأفلست ودمرت اقتصادياتها وأفقرت مواطنيها، وليس هناك وجه مثال تخشاه دولة مثل الكويت، كفنزويلا الغنية جداً مقارنة بجاراتها في الأميركيتين الوسطى والجنوبية، وتعتبر سادس أكبر احتياطي نفطي في العالم، وتعتمد على النفط بما يتجاوز 95 في المئة من إيراداتها المنفقة على مصروفات غير رشيدة وفساد، وترزح تحت دين سيادي يبلغ 150 مليار دولار، مما خلق أزمة اقتصادية خانقة تحولت سريعاً إلى مأساة إنسانية تتجاوز الحديث عن التضخم والبطالة إلى جوع وتشرد، إضافة إلى اليونان التي عانت ماليتها سنوات من سوء آليات الصرف ما بين تركيز على الإنفاق على الوظائف العامة وصفقات التسلح والفشل في استقطاب الاستثمارات الأجنبية، وسوء أنظمة الامتثال الضريبي، بل إنها تراجعت في أحد أهم مصادر دخلها، وهو السياحة لمصلحة دول محيطة بها بسبب إهمال تحديث البنية التحتية فكان حجم الدين العام البالغ 313 مليار يورو مسبباً أزمة مالية ليس لليونان فقط بل أيضا لمحيطها الأوروبي.

انهيار وفقر وفوضى

وكذلك تصلح الأرجنتين مثالاً لأزمات الاقتصاد الناتج عن الاستدانة وما بعدها من استحقاقات، فعندما فاق الدين السيادي أواخر القرن الماضي 130 مليار دولار، اتجهت بوينس أيرس إلى تخفيض النفقات قسرا، وخفضت عملتها (البيزو) وباعت المؤسسات العامة للشركات الاحتكارية، وبات هدف الدولة لا تنمية الاقتصاد بل فقط الحصول على الأموال لسداد الديون المتراكمة وفوائدها، مما انعكس على نمو لافت في نسبة التضخم ومستويات البطالة، بما يعادل ثلثي الشباب هناك، وانحدر الاستقرار السياسي والاجتماعي وانتشرت عمليات النهب والقتل ووصلت نسبة الفقر بين الأرجنتينيين إلى 50 في المئة من الشعب. أما جزيرة ناورو فتحدثنا أكثر عن نضوب الثروة، فهي كانت واحدة من أغنى دول العالم حتى قبل 30 عاماً بفضل الثروة المفاجئة الناتجة من مناجم الفوسفات، ومع نضوب المناجم سرعان ما تحولت هذه الدولة إلى الفقر، وباتت ملاذاً لشبكات غسل الأموال والتهرب الضريبي ومقراً لرجال العصابات المطاردين، فضلاً عن أن جانباً مهماً من الفوضى السياسية والمعيشية التي تعانيها لبنان ناتجة عن الإفراط في رفع الدين السيادي إلى نحو 90 مليار دولار بلا تغطية اقتصادية تنتج عوائد لسد الدين.

تحوط وخطط

أي حديث أو «قتال» حكومي عن الاستدانة يجب أن يقترن بخطة اقتصادية واضحة أول ما تأخذ في اعتبارها اعلى درجات التحوط تجاه أسعار النفط في المستقبل، إلى جانب اعتماد آليات متنوعة لرفع نسبة الإيرادات غير النفطية من إجمالي الإيرادات، والعمل على خفض الإنفاق من ناحيتي الترشيد وتحفيز البدائل الاقتصادية، وأهمها توفير فرص العمل للشباب الكويتيين في القطاع الخاص، ولعل هذا كله صعب التحقق مع إدارة بنفس العقلية التي أهدرت نحو 13 عاماً متواصلة من الفوائض المليارية سنوياً دون تحقيق تقدم جوهري على صعد الاختلالات الاقتصادية المرهقة للكويت، لاسيما سوق العمل أو الإيرادات غير النفطية، ومن دون ذلك ستكون الاستدانة مصيدة لن نعرف الخروج منها كما تلك الدول التي بالغت في الاستدانة فدفعت الثمن غالياً.