في منتصف ثمانينيات القرن الماضي ظنت قلة من المحللين أن الحرب الباردة سوف تنتهي في وقت قريب، ويقول الكثير من الصحافيين والعلماء إن لديهم معرفة عميقة بقضايا الشرق الأوسط، ويزعمون القدرة على التنبؤ بكيفية ردة فعل كل طرف، من دون استثناء، لكن لابد أن نعترف بأن طبقة الخبرة الإقليمية في الولايات المتحدة ضعيفة، وأن تلك المعرفة، حتى في حال وجود علوم مجتمعية، لن تقدِّم لنا أكثر مما وصلنا إليه.

وبالنسبة للرئيس الأميركي دونالد ترامب انطوت حادثة مقتل مواطن أميركي بهجوم لرجال ميليشيا في 27 ديسمبر الماضي على أهمية كبيرة. كما أن حادث قتل مواطن أميركي آخر أفضى إلى انسحاب ترامب من اتفاقية مع حركة طالبان كان يفترض أن يتم توقيعها في فصل الخريف الماضي. وهو يقول الآن – كما قال عندئذ – إنه صرَّح بأن أي هجوم آخر يُفضي إلى مقتل مواطن أميركي سوف يُقابل برد عنيف (رغم عدم صدور ردة فعل على هجوم حركة الشباب في كينيا، الذي أسفر عن مقتل ثلاثة أميركيين).

Ad

وكان ترامب يعتقد، وفقاً لحساباته، أن الجانب الآخر سوف يرتدع، أو أن المساحة الواسعة الفارغة في القواعد الأميركية سوف تجعل من المستبعد تعرُّض أحد لإصابة. وفي واقع الأمر، فإن هذا ما حدث في عملية الصواريخ الإيرانية في العراق، حيث لم تقع إصابات، لكن ذلك لم يكن بفضل أي خطوات اتخذتها إدارة ترامب.

ويتوجب تعميم هذه النقطة. ويتوقف نجاح الإكراه والإجبار على خيارات الخصم. وفي حال القيام بخطوة جريئة – كما فعل ترامب – قد يظن أنه اتخذ مبادرة، وأنه يسيطر على الوضع، لكن الواقع ليس كذلك. ورغم أن للولايات المتحدة نفوذها وتأثيرها على مسار تطور الأمور، غير أن رفاهية الشعب الأميركي، واحتمالات إعادة انتخاب ترامب لفترة رئاسية ثانية غدت الآن في يد إيران. ويتداخل بوضوح مستقبل الأميركيين والإيرانيين.

التضليل الأميركي

ومن المحتمل أن تكون المجادلة، بأن عمليات القتل تقلص إلى حد كبير قدرة إيران وعملائها على العمل، وقد أظهر بحث قامت به جينا جوردان وأوستن لونغ ومجموعة مشاركة، أن عمليات قطع الرؤوس لم تسفر عن إضعاف المنظمات الدستورية.

وبدلاً من ذلك الأسلوب، أظن أن ما لدينا هنا الآن هو مثل ما يدعوه منظرو المنظمات «موديل النفايات»، وهو يشير إلى حالات تكون فيها مشكلة من نوع ما (هي هنا الهجوم على السفارة الأميركية في بغداد) سبباً ليس لإثارة بحث حول حلول فعَّالة، بل للوصول إلى اقتراح سبق تطويره من أجل أغراض أخرى. وهو أمر سهل، وفي متناول اليد، ولا يتطلب إعادة تفكير على أي حال.

والمنطق طبعاً يقول إن الردع هو السبيل الأفضل للضربة. ومن خلال توجيه ضربة مؤلمة لإيران استطاعت الولايات المتحدة أن تُظهر أنها ليست مستعدة بعد الآن لتقبل هجمات، وأن على طهران (والآخرين أيضاً) توقع ضربات قوية انتقامية، رداً على أي مغامرات أخرى. ويمكن أن يكون ذلك صحيحاً، لكني لستُ واثقاً منه. وفي المقام الأول، فإنه رغم أن قادة إيران فوجئوا بعملية الاغتيال الأخيرة، غير أنهم كانوا يتوقعون دائماً حدوث مثل تلك العمليات، وبكلمات أخرى، لن تغيِّر الضربة الأميركية بصورة راديكالية تقديراتهم لكيفية ردهم في المستقبل. وثانياً، حتى في حال تسبب ذلك في زيادة احتمال رد عنيف، وحتى في حال كون ذلك حصيلة يريدون تفاديها، قد تكون هناك توازنات مضادة تحول دون تحقيق هذا الهدف.

وربما تظن إيران أن الولايات المتحدة أصبحت الآن مستعدة لعملية تغيير النظام، وأن النأي عن الاستفزازات لن يُجدي نفعاً، وقد يعتقد قادة الأجنحة المختلفة في إيران والعراق أنه حتى في حال كون الرد الأميركي سيئاً لبلادهم، فإنه قد يكون جيداً بالنسبة لهم، لأنه سيثير الرأي العام لمصلحتهم، وثالثاً، يمكن للقادة المحليين أو الإرهابيين أن يهدفوا إلى تسريع المزيد من النزاعات بين إيران والولايات المتحدة، وبالتالي قد يستغلون ذلك على شكل فرصة لهم.

الاتفاق النووي الإيراني

يثير إعلان طهران أنها لم تعد ملتزمة بالاتفاق النووي السؤال حول ما إذا كان قادة إيران يعتقدون أن الأسلحة النووية فقط هي التي تستطيع حمايتهم. وكان ذلك هو الدرس الذي برز من خلال الهجمات الأميركية على ليبيا والعراق، وربما تعزز من خلال عدم مهاجمة أميركا لكبار المسؤولين في كوريا الشمالية، أو محاولة تقويض نظامها.

وإذا ردَّت إيران بهجوم سبراني، فإننا قد ندخل في حملات طويلة وانتقامية غير مسبوقة، وكانت مجموعة كبيرة منا درست ديناميكية تصعيد الهجمات السبرانية، وحتى مع كون تلك الحملات جيدة بالنسبة إلى بحوثنا، فإنني أرى أن هذه الخطوات قد تُفضي إلى حصيلة سيئة في الكثير من الطرق. وطبعاً نحن نعلم بحدوث الكثير من الهجمات السبرانية في المنطقة، وكانت مدمرة أحياناً، ولكن هذه الموجة الجديدة قد تكون أكثر حدة، وتنطوي على احتمالات سوء فهم وتقدير. ويرجع ذلك ليس فقط إلى عدم معرفة ما يهدف إليه الطرف الآخر، بل إلى عدم قدرة ذلك الطرف على التنبؤ بتأثيرات وتداعيات ذلك العمل.

ويمكن أن يُفضي مثل ذلك النزاع في الأجل الطويل إلى اتفاقيات رسمية، لكن تحقيق ذلك الهدف ليس سهلاً، لاسيما بعد التصعيد الذي أعقب عملية الاغتيال الأخيرة في العراق. وتتسم السياسة في العراق وإيران بصراع على السُّلطة، وحصيلة هذا التنافس ليست معروفة بالنسبة لي حتى الآن، لكن يبدو أن موجة الاحتجاجات داخل إيران قد انتهت، ولم تحقق الهدف الذي كانت الولايات المتحدة تسعى إليه، كما أن النزعة القومية في العراق تحوَّلت ضد الولايات المتحدة. ورغم أن أحداً لا يستطيع التأكد من نتيجة هذه الخطوة، ومع أن الهجوم الإيراني الأخير على قاعدة إيرانية ربما يثير درجة من الاستياء، غير أن الاحتمال الأكبر هو أن تداعيات اغتيال الجنرال قاسم سليماني سوف تزيد من نفوذ إيران في العراق.

إعطاء الفرصة لـ «داعش»

النتيجة الأخرى لهذه التطورات قد تتمثل في إعطاء تنظيم داعش فرصة استرداد أنفاسه وحشد قواته من جديد، كما أن زيادة النفوذ الإيراني في العراق وسورية قد تسهم في إبعاد الطائفة السنية هناك. وإضافة إلى ذلك، وحتى بعد انتهاء التعاون بين الولايات المتحدة وإيران في ساحة المعركة بعد تدمير تنظيم داعش، فإن استمرار ذلك الجهد يتطلب تعاوناً وثيقاً بين الولايات المتحدة والقوى الأمنية العراقية، وهو أمر مستحيل في الوقت الراهن.

ومن المفارقات أن ترامب وقادة إيران يريدون خروج القوات الأميركية من منطقة الشرق الأوسط، وذلك سيجعل عملية هجوم الميليشيا على قاعدة أميركية صعبة الفهم، كما أنها تبرز النتيجة المحتملة لردة فعل ترامب إزاء التورط بعمق أكبر في مستنقع المنطقة. ومن هذا المنطلق يتعيَّن على الرئيس الأميركي الانسحاب، لكنني أشك في أنه يعرف ماذا يجب عليه أن يقوم به الآن.

وسيكون من الصعب على رئيس ديمقراطي، بعد تفاقم هذا النزاع (على افتراض وصول رئيس ديمقراطي إلى البيت الأبيض)، السعي إلى تحقيق انفراج مع إيران، وربما يعتقد قادة طهران أن الولايات المتحدة سوف تقرر تحسين العلاقات معها.

في غضون ذلك ثمة مَنْ يطرح السؤال عمَّا يظنه زعيم كوريا الشالية كيم جونغ أون، وما إذا كان سينتهز هذه الفرصة، المتمثلة في انشغال الإدارة الأميركية من أجل استئناف تجارب الصواريخ النووية أو العابرة للقارات؟ أم أنه يعتقد أن ترامب خطر، ولا يمكن التنبؤ بما سوف يُقدم عليه، وبالتالي يتعيَّن عدم العبث معه؟

وكان رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي قال إن الجنرال قاسم سليماني كان في طريقه لتسليمه رسالة إلى القادة السعوديين حول تفاهم محتمل بين الرياض وطهران. وسواء كانت هذه الرواية صحيحة أم لا، فإن الاحتمال أنها ستحظى بقبول واسع، والتفسير الواضح لتلك الضربة الأميركية سيكون أن واشنطن حاولت تقويض تلك الجهود، من أجل تعزيز سياستها الهادفة إلى ممارسة «أقصى الضغوط» على إيران.

أزمة الصواريخ الكوبية

وكما أعقب أزمة الصواريخ الكوبية فترة تقارب في العلاقات الأميركية – الروسية، قد تتعلم الولايات المتحدة وإيران من الأحداث الراهنة أنهما تتعرضان لأخطار كبيرة غير مقبولة، وأن ذلك يتطلب فهماً غير رسمي، على الأقل من أجل تفادي كارثة مدمرة.

*روبرت جيرفيز