لطالما كانت نوايا الولايات المتحدة نبيلة، لكن تخفي النوايا الحسنة دوماً محاولات لفرض الهيمنة خارجياً. حين تستطيع الطائرات بلا طيار التابعة لأي بلد أن تقتل أي شخص في أي مكان، يستحيل كبح هذا التوجه، فإذا كنت تظن أنك تستطيع حراسة العالم من مستودع في نيفادا، فما الذي يمنعك من المحاولة؟

يتماشى حدس ترامب دوماً مع توجهات أي انعزالي أميركي تقليدي، فهو كرر أمام الكونغرس في شهر فبراير الماضي: "الأوطان العظيمة لا تخوض حروباً لا متناهية... حان الوقت لمحاولة إرساء السلام على الأقل". كان يعلن حينها الانسحاب الأميركي من سورية، ويلمح إلى مغادرة أفغانستان في الوقت نفسه، لكنه لا يزال هناك! تشارك الولايات المتحدة اليوم في ست حروب (في العراق واليمن والصومال وليبيا أيضاً)، ولا تساهم أي حرب منها في حماية أمنها.

Ad

ارتكزت التدخلات الغربية في العالم الإسلامي طوال عشرين سنة على كذبتَين: أولاً، قيل إن الإرهاب يطرح تهديداً على وجود الديمقراطيات الغربية، مما يُضعِف استقرارها بشدة. ثانياً، قيل إن التدخل يستطيع أن يعالج هذا التهديد ويفرض الطاعة وحتى الديمقراطية على الدول الضحية. حاولت مراكز تفكير أميركية يمينية إدارة شؤون العراق انطلاقاً من "المنطقة الخضراء" في بغداد خلال الأشهر التي تلت الغزو الأميركي في 2003، لكن بأي حق فعلت ذلك؟

يُعتبر التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول المستقلة غير أخلاقي، وهو خيار ممنوع بموجب الفصل الأول من ميثاق الأمم المتحدة، لكن تجاوز توني بلير ذلك الحظر حين طرح مبدأ "مسؤولية حماية" السكان المدنيين، ومع تصاعد أعداد الضحايا، أصبحت تلك الحماية مجرد غطاء لحروب متواصلة من العدوان الغربي، لهذا السبب، تبدو الأمم المتحدة شبه غائبة في تلك التدخلات، ففي هذا السياق، قال جورج بوش يوماً: "أترك مسألة الأمم المتحدة على عاتق المحامين". لا تتعلق المسألة الأساسية اليوم بعجزنا عن زرع براعم الديمقراطية في حقولٍ غارقة بالدم، بل بتحديد مسار الانسحاب من هذا المستنقع كله، فقد كان منظر ترامب وهو يهاجم إيران ويفرض عليها عقوبات إضافية أشبه بمشهد أخير من مسرحية أوبرا مأساوية، لقد بدا رجلاً محاصراً!

انضم السياسيون العراقيون هذا الأسبوع إلى المعسكر المعادي للإمبريالية، فطالبوا بانسحاب القوات الأميركية من أرضهم، واكتفى ترامب برفض هذا القرار، مع أنه تعهد سابقاً بتنفيذ انسحاب مماثل، حتى في ذروة انعدام الأمان في البلاد، كان الاحتلال الأميركي طوال 17 سنة كفيلاً بجعل العراق يتوق إلى رحيل الأميركيين. يدرك العراق أنه مضطر للتعايش بسلام مع الدولة الإيرانية النافذة في جواره، ولتحقيق هذا الهدف يجب ألا يبقى البلد أداة لغطرسة الرئيس الأميركي، وفي الوقت نفسه يتعين على أفغانستان أن تتوصل إلى تسوية خاصة بها مع حركة "طالبان" وباكستان المجاورة لها.

في ما يخص بريطانيا، يبدو خنوعها لواشنطن على مر 20 سنة، بقيادة توني بلير وديفيد كاميرون وأخيراً بوريس جونسون، مهيناً ومكلفاً. يُفترض أن تقدّم بريطانيا النصائح للأميركيين، بصفتها صديقتهم القديمة والصادقة، بما أن تاريخها يشبه في جوانب كثيرة الأزمة الأميركية الراهنة. لكنها تبدي للأسف موقف الخانع الذي ينتظر مكافأة. تتمثل المكافأة في هذه الظروف باتفاق تجاري مهم بعد "بريكست". لا مفر من تلاحق الأحداث المصيرية مع تفكك الإمبراطوريات، فبعد إقدام ترامب على قتل قاسم سليماني، قد يدرك كل مشارك في اللعبة أن هذه المقاربة لم تعد نافعة، ومن الواضح أن الرئيس الأميركي يبدي ردود أفعال عاطفية وغير متوقعة. قد ينسحب من العراق فعلاً ويسمح بانفصال البلد عن كردستان ويعقد صفقة مع طهران، حتى أنه قد يترك سورية تواجه مصيرها بنفسها ويغادر أفغانستان ويتركها تحت رحمة إسلام أباد، أما بريطانيا فقد تتمكن أخيراً من البقاء خارج هذه الفوضى كلها!

* سيمون جنكينز