في شهر أغسطس الماضي، وعندما كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يستعد لقمة الدول السبع في بياريتز، فتح أبواب قصره الصيفي في فورت بريغانكون أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. يومها قدم بوتين باقة من الورود إلى ماكرون، كما أعرب عن إعجابه بمشهد البحر الأبيض المتوسط الرائع من القصر.

وفي المقابل، أشاد الرئيس الفرنسي بالدور الثقافي في بلاده، الذي قدمه فنانون روس من أمثال إيفان تورغينيف وإيغور سترافنسكي. وأعلن ماكرون أن روسيا تنتمي بقوة إلى أوروبا.

Ad

وقد اعتبر تصريحه هذا، الذي لم يكن ارتجالياً، محاولة لإلقاء الضوء على النشاط الدبلوماسي، الذي قامت فرنسا به في الآونة الأخيرة، وطرح ما يعرف باسم التنوير، والذي أعاد تأكيد علاقات روسيا بالقارة الأوروبية– وكان فلاسفة فرنسا ألهموا، كما أحبطوا جهود روسيا الطويلة الهادفة إلى اعتبارها دولة أوروبية.

ويمكن للمرء أن يستعرض دور ذلك التنوير والجدال العنيف حول عمل العالم النفساني ستيفن بينكر الأخير بعنوان «التنوير الآن»، ولكنه لا يستطيع تحديد تأثيراته. ولكن المؤكد أن التنوير أحدث ثورة في مفاهيم الغرب حول الوقت والزمن، وخلق مفكروه فكرة العصور الوسطى على شكل طبقة لعصرهم ولدول «أوروبا الشرقية»، مثل مرآة لبلادهم، وهي «أوروبا الغربية».

وكانت فكرة أولئك الفلاسفة تقوم على تحديد بعد المواطن عن الحضارة بمقدار بعده عن الشرق، ولم يكن في مقدور الفلاسفة تحديد تلك المسافة بصورة أكيدة، منذ قرر بطرس الأكبر الانضمام إلى النادي الأوروبي. وكما لاحظ المؤرخ لاري فإن التخيل الأوروبي وضع روسيا بين أوروبا وآسيا وبين الحضارة والبربرية.

«أوروبا الأوروبية»

في منتصف القرن العشرين أعرب الرئيس الفرنسي شارل ديغول عن تناقض يتعلق بمكان روسيا في أوروبا، وتبنى ما أطلَق عليه «أوروبا الأوروبية»، ولكنه لم يحدد مطلقاً بشكل واضح ماذا كان يقصد من هذا التعبير. وفي عام 1959 وصف الرئيس ديغول أوروبا على شكل قارة تمتد من «المحيط الأطلسي إلى الأورال»، وكان يهدف إلى تحقيق نظرة تقوم على أوروبا متحررة من هيمنة الولايات المتحدة وروسيا، وقادرة على تسوية شؤونها الخاصة.

وبعد 60 عاماً تحقق نصف نظرة ديغول ولم تترك الهيمنة الروسية – من غزو أوكرانيا إلى الهجمات السيبرانية، التي استهدفت الانتخابات – أوروبا حرة لتسوية أمورها الخاصة. وفيما يتعلق بالهيمنة الأميركية على أوروبا فقد استمرت في التراجع التام، منذ انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة.

وعلى الرغم من جهوده التي هدفت الى تأكيد مهمة التحالف الأطلسي للرئيس الأميركي؛ فإن ماكرون نجح فقط في تقديم عروض عسكرية لضيفه الأميركي. ولم يتردد الرئيس الفرنسي في تقييم عواقب وتبعات هذه الحقيقة. وقد أعلن في الشهر الماضي أن الولايات المتحدة لم تتوقف عند «إدارة ظهرها إلى أوروبا»، بل إنها تركت حلف شمال الأطلسي «في حالة موت دماغي».

وأحدث هذا التقييم هزة امتدت من الأطلسي إلى الأورال، وفي موسكو –التي تبعد حوالي 2000 ميل إلى الغرب من الأورال– وصفت المتحدثة باسم وزارة الخارجية تصريحات الرئيس ماكرون بـ»الكلمات الذهبية» وأنها «صادقة ودقيقة».

التغير الدراماتيكي

وهكذا، فقد أبرز الرد الروسي تغيراً دراماتيكياً في الأجواء الدبلوماسية بين البلدين، وفي أول جولة من الانتخابات الرئاسية الفرنسية في عام 2017 أيد فلاديمير بوتين مرشح جناح اليمين فرانسوا فيلون، ثم دعم في الجولة الثانية مرشحة جناح اليمين المتطرف مارين لوبان.

وبعد أن أصبح رئيساً لفرنسا، أعرب إيمانويل ماكرون عن غضبه من بعض وسائل الاعلام الروسية مثل «روسيا اليوم» لقيامها بنشر أنباء مزيفة عن فرنسا، كما أعرب عن معارضته لقيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم. وشدد ماكرون، في مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس الأوكراني بترو بوروشنكو، على «سيادة أوكرانيا ضمن حدودها المعترف بها».

وشعر بوتين في أعقاب ذلك الموقف الفرنسي باستياء واضح، والتقى ماكرون في سانت بطرسبرغ في شهر مايو من عام 2018 لمناقشة قضايا تتعلق بالحرب في سورية، وعلى الرغم من نظر ماكرون إلى وجه بوتين مراراً خلال المؤتمر الصحافي، من قبيل التودد، فإن الأخير تجاهله ولم يلتفت إليه. والأكثر من ذلك، وفيما كان الرئيس الفرنسي يسعى جاهداً الى تأكيد أهمية «التلاقي» الجيوسياسي مع روسيا، ومضى في هذا الجهد إلى حد ترديد كلمات الجنرال شارل ديغول، التي أعلن فيها نظرته «من الأطلسي إلى الأورال»، فإن فلاديمير بوتين اقتصر في رده على إقرار ضعيف يشير إلى أن «الحوار هو السبيل الأفضل دائماً بدلاً من المواجهة».

خيارات روسيا

ولكن ماكرون حكم على خيارات روسيا في هذا السياق بصورة أكثر وضوحاً. وقال، في مقابلة مع مجلة الإيكونوميست البريطانية في شهر يوليو من عام 2019، إن مشروع روسيا المناهض لأوروبا يتسم بمواجهة وتوجه نحو العسكرة المفرطة، إضافة إلى كونه غير مستدام. كما أن اقتصاد البلاد ينكمش ومعدل الولادة يتراجع. وفي ضوء هذه التطورات سوف تجد روسيا عما قريب نفسها مدينة بالفضل الى دولة أكبر، وماكرون على يقين بأن موسكو لا تريد أن تتحول الى «تابع للصين»، ومن هذا المنطلق فإن الشراكة مع أوروبا قد تكون البديل الوحيد لديها في الوقت الراهن. ويعتقد ماكرون الآن أن تقديم القضية الأوروبية الى بوتين –ليس لأجل روسيا فقط، بل لأجل أوروبا أيضاً– يمثل الخيار الأفضل. وقال في خطابه السنوي، أمام السلك الدبلوماسي في شهر أغسطس الماضي، إن إبعاد روسيا سوف يفضي إلى التضحية بالسيطرة على علاقات مهمة وقيمة، وربما يقلب الموازين الحيوية. وأضاف: «نحن نعلم أن الحضارة تزول، وهذا هو مصير أوروبا أيضاً، وسوف يتمحور العالم حول قطبين كبيرين هما الولايات المتحدة والصين، وسوف يتعين علينا أن نختار بين هيمنتين».

مشاكل وهموم القارة

وهكذا، وفيما تنهمك المملكة المتحدة بقضية البريكست، وتنقسم ألمانيا حول مسألة الهجرة؛ قرر الرئيس الفرنسي التحول نحو روسيا، وشهد البعض من حلفائه الأوروبيين كيف مد يده الى موسكو وتجاهلهم. وتساءل أحد السفراء في الاتحاد الأوروبي، في حديث إلى صحيفة «لوموند»، لماذا يعمد ماكرون دائماً إلى التعبير عن نفسه بهذا الأسلوب الفرنسي التقليدي؟ وحتى في الداخل الفرنسي حذرت الاختصاصية في القضايا الفرنسية – الروسية تاتيانا كاستوفا جين من الاندفاع والتسرع وإظهار الرغبة الشديدة في التقرب من روسيا، وذلك خشية ألا يرى بوتين في ماكرون صورة عن ديغول جديد، بل يترجم العروض الفرنسية على شكل نقاط ضعف وعدم تساوق.

في غضون ذلك يتعين على المراقب أن يلاحظ أنه في ضوء الطبيعة القاسية التي يتسم بها حكم الرئيس بوتين يتوجه كثيرون إلى الغرب، بسبب خطر هذه الامكانية عليهم. وفي شهر مايو من عام 2018 نشر تحقيق أجراه مسؤولون من خمس دول يؤكد أن صاروخاً روسياً أطلق من الأراضي الروسية قد أسقط الطائرة الماليزية فوق أوكرانيا في عام 2014.

وخلال مؤتمر صحافي في سانت بطرسبرغ سأل أحد الصحافيين الفرنسيين الرئيس بوتين عن ردة فعله على ذلك التقرير، وأجابه بوتين بهدوء أنه لم يعلم شيئاً عن ذلك الأمر، لأنه كان يعمل طوال اليوم. وكان اللافت أن الرئيس الفرنسي الذي كان يقف الى جانبه لم يظهر أي ردة فعل سوى التعاطف مع عائلات نحو 300 من ركاب تلك الطائرة المنكوبة.

وربما كان الفيلسوف الفرنسي ديدرو سوف يشعر أيضاً بتعاطف مماثل؛ فقد زار سانت بطرسبرغ في عام 1773 بدعوة من الامبراطورة كاترين، التي كان يأمل عبثاً في جعلها حاكمة متنورة، وعندما كان في طريق عودته سأله أحد أصدقائه عن انطباعه حول الإمبراطورة التي تسلمت الحكم، بعد العثور على جثة زوجها المخلوع بطرس الثالث، فتريث الفيلسوف الفرنسي قبل أن يجيبه هامساً: «يوجد عالم من الاختلاف بين النظر إلى النمور في لوحة رسم، وبين النمور في الحياة الحقيقية».

*روبرت زارتسكي