كان هو يسكن في طبقات الوعي والعقل، يبقى متربصاً هناك ويرفع العصا الغليظة أو الصور الداكنة كلما شطح التفكير بعيداً أو حاولت أنت أو من حولك الخروج عن تلك الدائرة الضيقة التي رُسمت بدقة لتحدد لكم جميعا الفضاء المغلق للتفكير، وكان هو أيضا يختبئ في أزقة المطابع عندما كانت هي أكبر سلاح حرب في وجه الجهل والانغلاق قبل أن تتحول التلفزيونات ثم الإنترنت لتصبح هي الجيش الثاني لكل نظام أو حكومة.

ينفض الكلمات ليرى ما تحتها وما فوق حروفها، يدقق النظر في العناوين، يبحث عن النيات خلفها أو ما يمكن أن يكون القصد، وإذا عجز لكثرة غبائه وقلة معرفته فالحل الأمثل والأكثر أمانا بالنسبة إليه هو أن يشطبها كلها أو يحذف منها أجزاء فيكون مخلوقا مشوها كما هي نفسياتهم هم.

Ad

هو لا يستكين، فهذا دوره في الحياة أن ينبش خلف النفوس أو في باطنها، أن يتابع دقات قلبك ونظرات عينيك أليست العين مغرفة الكلام؟ لا يضع خريطة للتحركات الجسدية فقط بل الذهنية التي تنتج عن كثير من القراءة أو النقاش مع من يشبهونك أو يختلفون عنك، ولكن لديهم القدرة على أن يدخلوا في نقاش دون شتائم أو اتهامات بالخيانة العظمى، يجلس خلف أضلع صدرك ليعد عليك كل نفس، أما مزاجك العام فهو بالنسبة إليه أكبر دليل على إدانتك.

هو كان واحداً أو أكثر يخدمون جهازاً أو أجهزة، وهو رغم تخفيه أو محاولاته للتخفي يبقى الأكثر وضوحا لهم جميعا، لمحترفي الكلمة ومحبي الفضاء المفتوح، لصائدي الأفكار القادمة مع رياح منعشة، مع نسيم ذاك الخليج الهادئ غير الملوث، لا تصل النسمة الشاطئ حتى يصطادها بصنارته الحادة، يضعها ضمن قائمة الاتهامات الطويلة التي تقدم لتلك الأجهزة المختصة في عد أنفاس العباد وحساب خطواتهم وتحركاتهم بل ظلهم، كان هو يستحق بجدارة وصف "صائد الأفكار" أو سجانها، لا يخفي أنه لا يطيق بعضها، بل هي تسبب له كثيراً من الحساسية المفرطة مثل تلك الكلمات، الحرية، الكرامة، الديمقراطية، المساواة و... و....إلخ.

يردد من أين جاؤوا بها؟ هذه الأخرى دخيلة علينا، على مجتمعنا وعلى ثقافتنا العربية أو الإسلامية، هكذا هو وزملاؤه من العسس أو العساسين وهو رغم تعريفه لدى معجم المعاني الجامع بأنه من "يقضي الليل عساسا مراقبا طائفا بالليل، يكشف عن أهل الريبة واللصوص"، فإن العساس الذي كان، ترك اللصوص يمرحون في شوارع المدينة وبيوتاتها وسلط جل قدراته على العقول المتمردة.

اختفى ذاك مع التطورات الحديثة، وأصبح كل المراقبين عاطلين عن العمل، بعضهم تحول ليكون رقيباً صغيراً يقف على الأرصفة أو يجلس ليشرب أكواباً من الشاي والقهوة حاملا جريدة في حين تلتقط أذناه كل الأحاديث ليسجل أي كلمة خارجة عن تلك الدائرة الضيقة أو خلف الخطوط الحمراء.

وفي حين اختفى الرقباء الأغبياء كما كانوا يعرفونهم، حل مكانهم ملايين يسكنون العقول مباشرة دون وسيط يلغون الكلمة قبل أن تصل إلى شاشة الكمبيوتر أو تتحول إلى حركة باليد ترسم صور مغايرة لما هو مقبول أو متبع. ارتاحت الأجهزة عندما انتصرت في أن تتخلى عن ذاك الجهاز المتضخم، وأن توفر عليها الجهد والتعب، وتترك كل مواطن يراقب نفسه على نمط "راقب نفسك بنفسك"!

مع كل التطورات الفكرية والسياسية والجرأة في كسر تلك الحلقة، كان الحل الوحيد أن تخلق مجتمعاً يراقب أبناءه ليكسرهم ويرعبهم ويخوفهم ويخونهم أيضاً، ويطالب بشنقهم وحرق كتبهم كما كان في تلك العصور المظلمة، تحول الرقيب إلى مجتمع متكامل يراقب ضميرك ويردد أنك تناصر هذا أو ذاك "باين من وشك" من عينيك أو حركة جسدك المضطربة، كلما طالت الشتائم لمن يختلفون عنهم في الرأي، وانتشر الجهل ليساهم في تلك الحملة على كل من تسول له نفسه أو يختلف في الرأي أو الموقف هو أو هي يصبحان مثل ذاك الفيلم الشهير لذاك العالم في تلك القرية الصغيرة عندما قال لهم: إن الماء ملوث وإنهم جميعا إلى الهلاك فحاصروا بيته وضربوه وزوجته وأبناءه بالحجارة وطردوهم من حضن القرية أو القبيلة.

رحل هو وما كان إلا أن ماتوا هم جميعا، لأنهم مارسوا الرقابة الجماعية فقط وتحولوا إلى أجهزة مخابرات ضحلة متحجرة في زمن أصبح من الصعب أن تضع الكلمة في الزنزانة وتقفل عليها بالأقفال الحديدية، فهي تنتقل مع النسمة وتتسلل عبر الحمامة الجالسة عند حافة شرفتك أو حتى مع سرب الطيور القادم من أراض بعيدة، يغني ويرقص للحياة في حين هم لا يعرفون إلا أغاني الموت.

استطاعوا هم أيضاً أن يخلقوا عسساً في عقل كل بني آدم، زرعوا الرقيب في أذهان البشر.

* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية