طرحت الشاعرة الفلسطينية ريم غنايم مجموعتها «نبوءات»، حيث تعتبر الفكرة هي قوام الأعمال الأدبية باختلاف أنواعها، وإذا غابت الرؤية في طيات النصوص الإبداعية سيخسرُ كثيراً من زخمها وقوتها المُقنعة، وهذا لا يعني أنَّ الشكل والترتيب ليس لهما دورُ في تكوين الأثر الإبداعي، بل يتحول المستوى البنائي في حياكة العمل الأدبي إلى عنصرٍ مؤثر ويزيدُ من توهُج الفكرة والمحتوى، وغالباً ما تطلبُ الفكرة إنزياحات في الشكل وطريقة التعبير، وهذا ما مرَّ به الأدبُ بكل صنوفه في المراحل التاريخية، إذ ظهرت أشكال تعبيرية جديدة، كما تداخلت الأجناس الأدبية بحيثُ لمَ تعد الهوية الإجناسية حاجزاً للتواصل بين الأنواع الأدبية، ولذا أصبج النص المفتوحُ والمُتفاعل من دون التأطير خياراً إبداعياً طبعاً مع الانفتاح على ثقافة الآخر وتراثه يكونُ التجريبُ في الكتابة عاملاً للتحرر.

Ad

جنوح العنوان

يتضاعفُ دور العنوان في رحاب الشعر ويكون بمنزلة مرآة كاشفة للمسارات والرؤى الفكرية للذات المبدعة، كما لا تخلو مفردة العنوان من جنوح المراوغة واللعبة بين سيرورة الدوال اللامُتناهية تُدركُ غنايم ارتدادات مفردة العنوان وظلّها المُنبسط على جسد النص، لذلك تُمثلُ عتبةُ العنوان في مجموعتها الشعرية الأولى خطاباً مُكتنزاً بالدلالات المُحيلة إلى المجالات الفلسفية والميثولوجية والتاريخية، فتعودُ بك تارة إلى الكهنة الذين كانوا يتنبأون بالغيب، ونسبت إليهم الحكمة والخوارق، كما توهمك تارة أخرى بأنَّ ما تضمه دفتا الغلاف عبارةُ عن توقّعات لأيام قادمة على غرار ما فعله الفرنسي نوستراداموس.

ولا يقف المكرُ عند العنوان الخارجي، بل يجنحُ إلى العبارات التي تشاركه تشكيل الخطاب وبناء المنظومة الدلالية التي هي وليدة للعلاقة التجاورية بين الكلمات تتصاعدُ حدة المفاجأة عندما تنضمُ مقولات إنكليزية إلى برواز العتبة، منها مقولة الشاعر الإنكليزي جون دوي: «أنا عالم صغير خُلق بمكر»، وما تنطقه أجمل الكاذبات «اضطراب داخلي، أسر، سبي نبيل وكلمات خاوية».

قبل ذلك توجدُ جملة متساوقة مع ما سبقت الإشارة إليه «أرى وجهي في نهر يتماوج»، هذا إضافة إلى اقتباس عبارة ناجي رحيم «كأني مجسات تلعق دبيب كائنات تحفر نخاعي»، واللافت أن هذه المقولات تجمعها بنية أسلوبية ودلالية متقاربة، ضف إلى ذلك يكمنُ وجه آخر للمكر الأسلوبي في المقطع الذي يلي العتبات بعنوان «هذا الشعر ليس لي»، إذ يضع القارئ أمام سؤال محوري، هل أرادت الشاعرة بذلك محاكاة البنيويين والإيحاء للمتلقي بضرورة الفصل بين النص والذات المبدعة؟ وما يتواردُ في هذه المساحة عبارات خاطفة تدور حول القصيدة وانشطاراتها وفوضويتها.

بنية اللغة

وما يترشحُ في هذا السياق يؤكد محاولات لتثوير بنية اللغة والانتقال بالقصيدة إلى مستوى جديد «القصائد موت تجريبي شكوك شرور»، هذه الكلمات تفصح عن رؤية مغايرة للفعل الإبداعي الذي لا ينفصل عن مفهوم الموت، والأغرب ما يتضمنهُ المقتبس هو فكرة الموت التجريبي، وهذا ما ينمُ عن جنح المخيلة يصل بالتجريب إلى تخوم الموت، ومن المعلوم أن الوقائع كلها قد تتخذ صفة التجريب سوى الموت.

صورها الشعرية

يُذكر أنَّ ريم غنايم تنحتُ صورها الشعرية مما هو مهملُ ومنسي، وهذا ما يضفي الغرابة إلى النصوص «أفيق كيقظة الرماد في ظله»، ثمَّ تعقبُ على هذه الصورة بما هو أكثر غرابة «الوجوه صارت نيئة، وتماثيل عتمة مأكولة، وشخير المساءات يترنح على عتبة».

أزيد من ذلك يطيبُ للشاعرة العدول عن النسق اللغوي المتداول وكسر البنيات السائدة» لا تصححني إن أخطأت، دعني أنغمس في الخطأ ما شئت» هكذا ترومُ غنايم تأثيث عالمها من خلال إعادة تشكيل اللغة.

المنجز الإبداعي

سؤال المرجعية هو ما يدور الحديثُ بشأنه خلال مقاربة المنجز الإبداعي، ومن المعلوم أنَّ ثقافة المبدع ومُتابعاته تعتبرُ رافداً رئيساً لتأسيس الفرادة والخصوصية إذاً لا يمكنُ ارتيادَ أفق إبداعي جديد دون وجود خلفية ثقافية داعمة، إضافة إلى المغامرة الإبداعية جربت ريم غنايم تذوّق طعم نوع مختلف من الإبداع من خلال ترجماتها للمؤلفات الشعرية والروائية لتشارلز بوكوفسكي، حيث نقلت للأخير أجمل نساء المدينة ومكتب البريد، فضلاً عن ترجمتها للمدمن والغذاء العاري لوليام س. بوروز، وذلك مكّنها من صياغة لغة مشحونة بغضب ناعم تنمحي الحدود في عالمها بين الخطيئة والطهر «أنت الحر كالخطيئة كاللعنة، عذّب نفسك ما استطعت، عذّبها، نفسك الطاهرة كالخطيئة».

ولا تبتعدُ كتابات ريم غنايم عن التراث الصوفي، لاسيما على مستوى سبك الكلمات وميلها إلى تناثر الشذرات قد تبدو متفرقة، غير أنها مترابطة في الرؤية «ما زلت على حالي مكاناً بلا ظل يستر عورة الأرض»، هذا التضخم الأنوي يذكرك بالتماهي مع المطلق.

وما هو مثير للانتباه في العناوين الداخلية اختيار العبارات الأجنبية والتفاعل المباشر مع المفردات الواردة في النصوص المقدسة والكلمات المحمولة بدلالات أسطورية وتاريخية «شمشون، إبوشكا، ابشالوم».

الجزء الأخير

وفي الجزء الأخير من هذه المجموعة، ينحو الأسلوب منحى ذاتياً أكثر، وتأتي العبارات مغلّفة بالعدمية، مع نبرة ساخرة لجملة من المفاهيم «الخلود صفة النهايات العظيمة، أبحث عن بداية تؤجل خلودي»، كأنَّ بريم غنايم تتعاطف مع قبور لا تحمل علامة، وأنت تواصل قراءة محتويات هذه المجموعة يرافقك صدى مقولة جون دون التي تردُ في مفتتحها «أنا عالم صغير خلق بمكر»، فالثيمة الأساسية لنصوص ريم غنايم هي مكر اللغة لتشكيل عالمها.

وما تجب الإشارة إليه أن وجود المرجعية لا يتناقض مع مفهوم الكتابة خارج الإطار يختلفُ المرجعية عن الأب الشعري الذي ترفضه ريم التي يهمها أن تتخذ فن الشعر بوصفه آلية لتفكيك الروح وخلقها من جديد.