في نوفمبر الماضي أبلغ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون مجلة الايكونوميست البريطانية أن حلف شمال الأطلسي يفتقر الى تحديد اتجاهه وأنه يعاني «موتاً دماغياً». وقد أثارت تلك الملاحظات انتقادات من جانب المسؤولين الأوروبيين والأميركيين، ولكن عندما اجتمع قادة الدول الأعضاء في الحلف بلندن في 4 ديسمبر انطوت ملاحظات ماكرون على سمة تحفيز واضحة.

وفي حقيقة الأمر وبحسب تصريحات الرئيس الفرنسي بعد قمة القادة فإن ملاحظاته تحولت الى آلة «تحطيم جليد» عملاقة، وأطلقت الكثير من الضجة، ولكنها مهدت السبيل نحو تقدم الحلف الى الأمام.

Ad

ومعروف أن أمام حلف شمال الأطلسي الكثير من الجوانب المثيرة للقلق، وعليه، في المقام الأول، أن يتصدى لصعود روسيا والصين وتواصل الارهاب في أفغانستان وفي أماكن اخرى من العالم، اضافة الى حتمية مواكبة التقدم في التقنية العسكرية، وقد انتهز السكرتير العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ اجتماع لندن المذكور من أجل البدء بمراجعة العملية التي سوف يقرر الحلف من خلالها كيفية مواجهة الحقائق الجديدة التي تطرح في القرن الحالي وما تنطوي عليه من تداعيات.

وتذكر ملاحظة «كسر الجليد» بواحدة مماثلة صدرت في عام 1966 عن الرئيس الفرنسي شارل ديغول الذي قرر يومها انسحاب بلاده من القيادة العسكرية لحلف شمال الأطلسي بحجة أن الالتزام للحلف يشكل انتهاكاً للسيادة الوطنية الفرنسية. وأعقب ذلك اتخاذ وزير خارجية بلجيكا بيير هارمل مراجعة استشارية قدمها الى مجلس وزراء الحلف وانطوت على فلسفة أسهمت في توجيه سياسة الحلف خلال خمسين عاماً بأنه يتعين على الحلف اتباع أسلوب ثنائي المسار يجمع بين الردع العسكري القوي والاستعداد للانفراج والحوار مع الاتحاد السوفياتي.

وقد واجه الحلف تحديات متصاعدة في السنوات الأخيرة، وفي عام 2014 استجاب الحلف في الوقت نفسه لاستيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم وبروز تنظيم داعش في سورية والعراق وذلك عن طريق تجهيز قدرات رد سريع في أوروبا وتوفير وسائل انذار محمولة جواً على مقربة من المجال الجوي السوري، ولكن ذلك ليس كافياً ويتعين على حلف شمال الأطلسي الاستعداد لمواجهة أخطار الغد عندما قد تصبح التطورات أكثر تعقيداً بين القوى العظمى، والتخطيط لمثل ذلك العالم سوف يشير الى أن الحلف يبعد كثيراً عن حالة يمكن وصفها بـ «الموت الدماغي».

غزو أوكرانيا

منذ قيام روسيا بغزو أوكرانيا في عام 2014 كان على حلف شمال الأطلسي الاستعداد لاحتمال حدوث عدوان في المستقبل من جانب موسكو. وفي قمة عام 2016 في وارسو قرر الحلف تشكيل قوة متعددة الجنسيات قوامها حوالي 4500 جندي، وبعد عام واحد عمد الحلف الى نشر تلك القوة في دول البلطيق وبولندا، وفي قمة لندن وافق القادة على الاستمرار في بناء القدرات العسكرية التي تظهر للكرملين أن حلف شمال الأطلسي يعتزم الدفاع عن نفسه في وجه أي انتهاك.

وفي الأعوام التي أعقبت استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم، شدد حلف شمال الأطلسي على أهمية ذلك الردع، بينما تراجعت فرص الحوار مع موسكو، ثم أصبحت جملة «الأعمال ليست كالمعتاد» مع روسيا السياسة الواضحة للحلف، وكان مجلس الحلف – روسيا أحد الاستثناءات القليلة في هذا الصدد. وفي ظل ذلك المجلس استمر قادة حلف شمال الأطلسي في الاجتماع مع المسؤولين الروس، وكان الحديث يتركز على تبعات غزو روسيا لأوكرانيا.

نحو انفراج أوسع

بعض قادة دول حلف شمال الأطلسي، بمن فيهم الرئيس ماكرون، يعتقدون أن الوقت قد حان لتحقيق قدر أوسع من الانفراج، وروسيا واحدة من اللاعبين الجيوستراتيجيين الكبار – بحسب ماكرون – ولايمكن استبعادها وتجاهلها، ولكن لا يوافق كل حلفاء الحلف على ذلك. ومن بين الرافضين هناك بولندا ودول البلطيق وحتى الوقت الراهن الولايات المتحدة أيضاً. وتظهر دبلوماسية واشنطن – موسكو اشارات تقارب بين البلدين، وكانت زيارة وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف الى واشنطن في العاشر من الشهر الجاري مؤشراً على استعداد الولايات المتحدة للعمل مع روسيا.

من جهة أخرى، وإذا اختار حلف شمال الأطلسي اتباع مسار ماكرون وحاول تجديد العلاقات مع روسيا فإن عليه توخي الحذر كي لا تفسر هذه الخطوة على أنها مكافأة لموسكو على تصرفها العدواني، ويتعين على الحلف أيضاً محاولة دفع الدول المترددة الى الانضمام الى ذلك الخط، والوسيلة الأفضل من أجل تحقيق هاتين الغايتين تكمن في تركيز الحلف لجهوده على مراقبة التسلح، وبعد كل شيء لدى كل دولة في حلف شمال الأطلسي مصلحة في خفض مستوى التهديد النووي.

وفي وقت سابق من هذا العام، على سبيل المثال، أجرى حلفاء الحلف مشاورات واسعة حول انتهاك موسكو لمعاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى. وبعد عدة شهور من العمل الجاد والنظر الى معلومات الاستخبارات وافقت الدول الأعضاء بالاجماع على أن الصاروخ الروسي 9 ام 729 لا يتماهى مع شروط المعاهدة. وفي وسع الحلف تطوير اجماع مماثل حول سياسة مراقبة الأسلحة، وسوف يكون في وسع الحلف عندئذ لعب دور حيوي في المفاوضات المستقبلية بين واشنطن وموسكو حول الرؤوس النووية التكتيكية – وهو هدف تسعى ادارة الرئيس ترامب جاهدة الى تحقيقه.

ظهور الصين والتداعيات المحتملة

في قمة لندن اعترف قادة الحلف بأن قوة الصين المتنامية تشكل تحديات وفرصاً بالنسبة الى الحلف وبكين ليست لاعباً نشيطاً في منطقة عمليات حلف شمال الأطلسي ولكنها ليست لاعبة آمنة أيضاً في آسيا ويستطيع الحلف العمل معها كما هي الحال مع اليابان وكوريا الجنوبية على سبيل المثال.

في غضون ذلك، يتعين على الدول الأعضاء في الحلف التصرف بحذر ازاء صعود الصين، ويرجع ذلك الى أن بكين أسهمت بدور فعال في انهاء النزاعات والتوترات الدولية في مناطق مختلفة من العالم، وعلى سبيل المثال فقد ساعدت على قمع عمليات القرصنة في سواحل الصومال في عام 2015، من جهة، وكانت مشاركة في توقيع الاتفاق النووي الايراني في عام 2015 أيضاً. من جهة اخرى اشترت الصين منشآت موانئ ضمن دول حلف شمال الأطلسي الأوروبية، كما أن شركة هواوي الصينية تهيمن على أسواق الاتصالات 5 جي في أوروبا، وفي حالة حدوث أزمة ماذا تعني سيطرة بكين على تلك البنية التحتية بالنسبة الى أوروبا؟

التغيرات في أفغانستان

لا توجد خطة كاملة لمستقبل حلف شمال الأطلسي من دون رؤية للسلام في أفغانستان، ويعمل الحلف على خطة تستهدف تدريب وتوجيه ومساعدة القوات الأفغانية، وفي الشهر الماضي أجرى السفير الأميركي الى أفغانستان زالماي خليل زاد مفاوضات مع حركة طالبان.

وتجدر الاشارة الى أن المفاوضات الناجحة بين الولايات المتحدة وحركة طالبان يمكن أن تمهد السبيل أمام سلام كامل ومصالحة تامة؛ ولكن بلوغ تلك المرحلة يتطلب اجراء محادثات تشمل كافة أطراف النزاع بما فيها الأقليات والنساء.

ويتعين على حلف شمال الأطلسي تحديد الدور الذي ينوي القيام به في محاربة الارهاب وفي عملية السلام والمصالحة، وقد خطط قادة قوات الحلف لمواجهة مختلف الاحتمالات في ذلك النزاع، كما يتعين على القادة العسكريين في الحلف تحديد طريقة التصدي لصعود قوة تنظيم داعش في أفغانستان ومنع توسعه الى آسيا الوسطى. وإذا طلب من الحلف أن يكون ضامناً للسلام فسوف يتعين عليه التنسيق مع القوى الاقليمية المعنية – الصين وباكستان وروسيا ودول آسيا الوسطى من أجل ضمان تنفيذ اتفاق السلام، وكضامن للسلام قد يتعين على الحلف أيضاً المساعدة في بناء بيئة مستقرة لتدفق مساعدات التنمية الواردة من منظمات مثل البنك الدولي والاتحاد الأوروبي.

وسوف يتعين على مخططي حلف شمال الأطلسي تقييم التقنيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي من أجل تحديد ما تشتمل عليه من تقدم في المجال العسكري وحدود المجازفة في هذا العمل، ويتوجب على الدول الأعضاء في الحلف تحديث جيوشها لمواكبة التغيرات لدى العدو المحتمل.

وكان تقرير هارمل قبل أكثر من خمسين عاماً قد تضمن عقيدة تدعو الى الاحتفاظ بقوة ردع ودفاع حتى مع الاستعداد للانفراج والحوار، اضافة الى التكيف السريع مع الظروف المتغيرة. وتناولت المواضيع التي طرحت في قمة لندن التطورات في روسيا والصين وأفغانستان والمنافسة التقنية، ولكن القضايا التي لم تطرح على الرغم من أهميتها هي تغير المناخ والركود الاقتصادي ونقص فرص العمل في الدول النامية، وهو ما قد يدفع الشبان الى الشوارع ويغذي الراديكالية السياسية التي تفضي الى التطرف والارهاب في البعض من الحالات.

*إي بي سي